دمشق - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -

بلدة معلولا السورية لها نكهتها الخاصة التي لا تشبهها نكهة أخرى لأي مكان آخر في العالم. ما يميز معلولا أنها مازالت البلدة الوحيدة في العالم، 
مع بلدتين صغيرتين بجوارها (جبعدين والصرخة) لا يزال أهلها يتكلمون اللغة واللهجة نفسها التي تكلم بها السيد المسيح عليه السلام، وهي الآرامية الغربية. ووراء هذا الكلام تاريخ عريق وقديم  وآثار وقصص وحكايات تختصر صفحات مشرقة من روح سورية (بلاد الشام) والشرق وتاريخه.

مخزن أثري
تقع بلدة معلولا شمال شرق دمشق، على بعد حوالي 56 كم، وترتفع عن سطح البحر حوالي 1500 متر، مما يجعلها تتمتع بهواء نقي ومناخ معتدل ومنعش صيفاً، بارد ومثلج شتاء، مما يجعلها منطقة اصطياف مميزة.
اسمها الآرامي يعني بالعربية «المدخل» أو «الفج» وأخذت هذه التسمية من الفج الموجود فيها والمحفور في الصخر وله قصة سنوردها بعد قليل.
تشتهر معلولا بآثارها الكثيرة، إذ لكل زاوية فيها حكاية ولكل حجر قصة ولكل بناء ومعلم تاريخ. وبعض هذه المعالم تتعلق بالتاريخ الإنساني ككل، لأنها تعود إلى فترة سكن الإنسان في الكهوف، حيث تعتبر كهوف معلولا ويبرود المجاورة من أقدم وأهم كهوف الإنسان القديم في العالم، والتي بقيت تحتفظ بالكثير من معالمها.
تعاقب على بلدة معلولا عددٌ من الحضارات القديمة؛ ومنها: الآرامية، اليونانية، الرومانية، البيزنطية، وأخيراً العربية الإسلامية.
وتشير الدراسات إلى أن معلولا مأهولة بالسكان منذ عصور ما قبل التاريخ؛ وهذا ما أظهرته الدراسات الأثرية والتاريخية، حيث تبين أن إنسان نياندرتال أقام فيها خلال الفترة الزمنية بين (200 ـ 40) ألف سنة قبل الميلاد، وسكنها الإنسان الأكثر تطوراً من القديم بين (10-7) آلاف سنة قبل الميلاد؛ حيث لم تقتصر إقامة الإنسان في المدينة خلال تلك الفترة على الكهوف الموجودة في الطبيعة؛ بل لجأ إلى حفر الكهوف ونحتها في الصخور، وكان منها المنازل والمعابد، والتماثيل للآلهة التي تمثل المعتقدات الدينية للسكان.
كانت معلولا خلال العهد الآرامي تتبع مملكة حمص، وبقيت كذلك حتى العهد الروماني الذي سميت فيه معلولا سليوكوبوليس، وإلى العهد البيزنطي الذي لعبت فيه دوراً دينياً مهماً عندما أصبحت بدءاً من القرن الرابع مركزاً لأسقفية استمرت حتى القرن السابع عشر.
معظم بيوت معلولا القديمة تقام فوق كهف من الكهوف التي تعود إلى آلاف السنين والتي سكنها الإنسان القديم. وبسبب طبيعتها الجغرافية تتميز بيوت البلدة القديمة بأنها تشكل طبقات، حيث تشكل أسطح البيوت في الطبقة الأدنى أروقة ومعابر لما فوقها من بيوت لتكون ذات طابع متميز، وهذا ما جعلها لوحة طبيعية جميلة جذبت الكثير من الفنانين السوريين والعالميين الذين رسموها بكل تفاصيلها، لتخرج من وحي معلولا عشرات اللوحات المشهورة والموزعة في متاحف سورية والعالم.

نقطة انطلاق المسيحية إلى العالم
أشهر معالم معلولا التي مازالت قائمة دير «مار تقلا»، ودير «القديسين سركيس وباخوس»، وكهوفها المحفورة بالصخر، إضافة إلى الفج المحفور بالصخر والعديد من الكنائس والأضرحة والمعالم الأثرية.
يضم دير «مار تقلا» رفات القديسة «تقلا»، ابنة أحد الأمراء السلوقيين. لكن أهميتها أنها تعود إلى فترة السيد المسيح مباشرة، ويقال إنها ولدت في العام 9 ميلادية وتعمدت على يد القديس بولس أهم تلامذة السيد المسيح، والذي حمل راية المسيحية من بعده ونشرها من دمشق إلى العالم.
يقع دير «مار تقلا» في مكان بارز من القرية، وبقربه الكهف الصخري الذي عاشت فيه القديسة «تقلا» بعد هروبها من أهلها الذين لاحقوها لإيمانها بالمسيحية. ولا يزال الكهف ظاهراً حتى اليوم، وفي رحابه بُني دير «مار تقلا» الذي بقي حتى الآن رمزاً للقداسة وحياة القديسين، مما يدل على أن معلولا كانت منذ ذلك التاريخ مدينة مقدسة يلجأ إليها الرهبان والمؤمنون بالمسيحية إما هرباً من الاضطهاد بسبب طبيعتها وإما للتعبد.
أما دير «القديسين سركيس وباخوس» فقد جاءت تسميته نسبة لفارسين قضيا في عهد الملك مكسيمانوس في سنة 297م بسبب إيمانهما بالمسيحية.
يرجع تاريخ الدير إلى القرن الرابع الميلادي، وبني على أنقاض معبد وثني قديم. ويمتاز هذا الدير بطابع عريق، ولايزال محتفظاً بطابعه التاريخي العريق، ومازالت الكنيسة القديمة المحفورة بالصخر قائمة ولا يزال بابها الخشبي محفوظاً في الدير.
أما الممر الصخري (الفج) فهو محفور في الصخر يشق الجبل ويحدث ممراً ضيقاً كان يستخدمه السكان للعبور من البلدة باتجاه محيطها ومزارعها أو للهروب من الاضطهاد والملاحقة. وفي الشق (الفج) ساقية ماء صافية يتقاطر عليها الناس من كل مكان ليرشفوا من بركات مياهها للطهارة وينالوا نعمة الشفاء من المرض.
حافظت كهوف معلولا المحفورة في الصخور والتي سكنها الإنسان القديم على الكثير من معالمها وخصائصها، مما سمح لعلماء الآثار بدراستها ومعرفة الكثير من أسرارها وعن إنسان الكهوف التي سكنها.
وتقول هذه الوثائق إنه كان الملك قبل ستة آلاف عام يسأل من يريد أن يتزوج: «هل حفرت بيتاً في الصخر؟»، فإذا كان الجواب «نعم» زوجه، وإذا كان «لا» رفض تزويجه حتى يحفر بيتاً له.
ونظراً لمكانتها الخاصة تزدحم معلولا وأديرتها وكنائسها بآلاف الزائرين في «عيد الصليب» الذي يصادف الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر و«عيد القديسة تقلا» في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر، و«عيد القديسين سركيس وباخوس» في السابع من تشرين أول/ أكتوبر، حيث يتوافد الزوار إلى معلولا للمشاركة في هذه الأعياد، ويتلاقى الزوار من سورية مع الزائرين من كافة دول المشرق ومن أوروبا والعالم.

همجية العصابات الإرهابية
من المؤسف أن هذه البلدة الفريدة والرائعة تعرضت لهجوم شرس ومبرمج من العصابات الإرهابية المسلحة الإخوانية والوهابية، وكان يراد لها أن تكون محطة رئيسية لهم بسبب قربها من الحدود اللبنانية، وقد سيطرت عليها هذه العصابات لعدة أشهر عاثت خلالها فساداً وتخريباً بآثارها ومعالمها، وبقيت كذلك حتى حررها الجيش السوري ومعه نخبة من مقاتلي حزب الله، وهناك سقط ثلاثة من إعلاميي قناة «المنار» التابعة لحزب الله وهم ينقلون أخبار معارك تحرير البلدة من العصابات الإرهابية، وتجري الآن عمليات إعادة بناء وترميم معالمها الأثرية والتاريخية.