حوار:بشرى الغيلي / لا ميديا -
عبر صوته الخرافي الشجي شلالات من الشجن المعتق تنساب بسلاسةٍ وعذوبة فاضت على شِعاب وأودية الذائقة الفنية الأصيلة من بلاد العجارم حتى اخضّرت شعابها المقفرة وفاضت إبداعا حلّق بحنجرته في سماوات الوطن الواحد من صعدة حتى المهرة، من أين نبدأ بتناول مائدته العامرة بما لذ وطاب من فاكهة الألوان الفنية الجميلة «يا ذي طلعتِ الجبل مسرع نزلتينه» وأنت ترسم بخيالك مع الفنان سعيد الصانع تلك الحورية الغنوج وهي تنزل بخطواتها المسرعة من أعلى الجبل، ثم تذهب إلى «يا نور قلبي»، و«تعلمنا المعالي في زمننا» والتي تعتبر روزنامة من القيم اليمنية الباذخة، وغيرها الكثير والكثير.. والأهم من كل ذلك أنه برع في «اللون الغنائي القبلي» على غرار اللون الصنعاني، والحضرمي واللحجي، واليافعي.. إلى آخر تلك الألوان.. ويؤكد من خلال الحوار الذي أجرته معه صحيفة «لا» بأن هذا اللون هو الأقرب لصوت المجتمع وروحه الذي شمل كل المناسبات الاجتماعية سواء المفرحة أو المحزنة.. كونوا مع سياق الحوار الضافي.

في البداية هلا تعرف جمهورك بنفسك؟
سعيد علي مرشد الصانع، والاسم الفني «سعيد الصانع»، لدي بنتان وولد، نشأت كفيف البصر، من مواليد مديرية بني ضبيان -خولان بمحافظة صنعاء.

كيف سينجح هذا الكفيف؟!
كيف أثرت بيئتك القبلية في تشكيل شخصيتك الفنية؟ ومن يدعمك؟
نشأت في زمنٍ ومناطق لا يعرفون ما معنى «فنان» ولا يشجعون الفن ولا يدعمونه، أو يحفزون هذا الجانب، بالنسبة لأسرتي كانوا يدخلون في جدال أمامي أحيانا، والبعض منهم يقول الولد هذا سينجح إن شاء الله في المستقبل، والبعض الآخر يقول كيف واحد ما يستطيع يرى طريقه (كفيف أعمى) سيتعلم العود ويكون فنانا، هذا مستحيل.

عود من علبة الزيت المعدنية
منذ متى بدأت العزف على آلة العود؟ وكيف اكتشفت حبك للفن؟
كان حبي للعزف على آلة العود غريزة موجودة فيّ منذ الطفولة، ولأنني نشأت في منطقةٍ نائية وكان أشقائي يذهبون إلى أعمالهم، وبحكم أنني كفيف وكنت أصغرهم، كنت أبحث عن أي وسيلةٍ أشغل بها وقتي منذ خروج إخوتي في الصباح الباكر حتى عودتهم مساءً، فخطرت لي فكرة أن أصنع لي عودا بنفسي، ولم أعرف في ذلك الوقت أن من يصدر هذه الأصوات الجميلة اسمه العود، فصنعته من علبة الزيت المعدنية، وأوتار من خيوط الفتلة النايلون، وأحيانا أخرى مطاط النقود، وصنعت ريشته من عُلب الزيت الفارغة، ولم أعلم حينها أنها ريشة إلا بعد أن حصلت على العود الحقيقي الذي وصلني بعد أن تمكنت من إجادة العزف عليه.

مقاييس زمنية
كونك كفيفاً كيف تفسر تعاملك مع الموسيقى والتفاعل مع الآلات الموسيقية؟ هل هناك طرق خاصة تُمكنك من العزف بمهارة؟
بالنسبة للعود هو آلتي المخصصة التي بدأت بها ونجحت فيها، وأعرف مقاييسه الزمنية ومدة العزف واللزمات، وهي تخصصي ومجال عملي، وبالنسبة للأورج لا أراه، ولكن لدي إحساس سماعي بالنسبة للمدة الزمنية والوقت للصوت، أو العزف حتى يكتمل.

«البالة الصانعية»
فن البالة والزامل اليمني هما نوعان من الفنون التي تعكس أصالة المجتمع اليمني. كيف ترى هذا الفن في عصرنا الحالي؟ وهل سيحتفظ بجاذبيته للأجيال القادمة؟
فن البالة والزامل في حد ذاته يطلق عليه في اليمن موروث شعبي ويمتاز بالطابع القبلي وهو تراث عريق وأصيل، ألوانه متعددة من ضمنها البالة، وهي أحد الفنون الشعبية الفرائحية في المناسبات الاجتماعية والدينية تقوم فكرتها على المساجلة الشعرية بين الشعراء الحاضرين، حيث يقف المشاركون فيها صفين متقابلين ككورال، كما ذكر ذلك أديب اليمن الراحل وشاعرها عبدالله البردوني في كتابه «فنون الأدب الشعبي في اليمن». وأنا أول ما غنيت بدأت بغناء البالة، وقمت بإحيائها في المناطق الشرقية، والتي كان يحييها أجدادنا في أعراسهم ومناسباتهم، ولازالت للآن. قمت بإحيائها وأضفت لها من ألحاني ألوانا جديدة تنسب لي، حتى أصبحوا في المناطق الشرقية يسمونها «البالة الصانعية» كوني أول فنان غنى البالة بالعود في اليمن.

مجرد كلام عادي
كيف تتعامل مع القصائد التي ترسل إليك من الشعراء لتقوم بتلحينها وأدائها خاصة ونحن قد سمعنا لك الكثير من القصائد التي أديتها؟
أجد صعوبة أحيانا في ما يرسله بعض الأشخاص، فالبعض يحاول أن يكون شاعرا، وهو للأسف ليس بشاعر يرسل لي عبر الواتساب مجرد كلام عادي ويسميها قصيدة، فأقوم بتغييرها بالكامل، لأن الناس يسمعونها مني أنا، وبعضها تحتاج ملاحظات وتعديلات طفيفة وهنا تنتهي الإشكالية.

الغناء على الطبيعة
هل تتذكر أول مرة عزفت فيها بأعراس منطقتك؟ ماذا كان شعورك في تلك اللحظة؟
طبعاً أول عرس حضرته في بلاد بني ضبيان عرس أحد المشايخ، وكنت أغني على الطبيعة بين المجتمع وقبل أن نعرف مكبرات الصوت، ولا المكاسر، ومن الطريف أن من حولي كانوا أحياناً يقومون لأداء البالة منفردين وأنا أغني أو ينشدون زامل، ويرددونها وأنا أغني وأحياناً يدخل الحضور بزامل وأنا أيضا أغني، ليس استحقارا ولكن حينها لم يفهم الناس ما هو الفن، في ذلك الوقت كان ما يزال مفهوم فنان غير مألوف، وهذه معاناة فناني ذلك الجيل في الريف.

تأثرت بالأبرش والغشامي
بمن تأثرت من الفنانين قبلك؟ وكيف ظهر ذلك في موسيقاك وأسلوب عزفك؟ ومن هو فنانك المفضل؟
منذ الصغر تأثرت بفنانين في الجانب الغنائي، والقصائد القبلية.. وفناني المفضل الفنان الراحل أحمد صالح الأبرش (رحمه الله)، ومن ناحية فناني القصائد القبلية الذي تأثرت به أيضا الفنان علي أحمد حسين الغشامي من محافظة البيضاء، وكان تأثري بهما منذ الصغر كنت أسمع للغشامي من أشرطة كاسيت، وللأبرش من الراديو، لم يكن يوجد في ذلك الوقت إلا الراديو، وكنت أحيانا أسمع أغانيه عبر إذاعة صنعاء، وأول أغنية سمعتها له «الجمالية» تأثرت بها في بداياتي وأنا صغير جدا حينها.

أكثر أعمالي قصائد قبلية
القصائد القبلية تأتيك دائمًا، كيف تواكب هذه القصائد وتتكيف مع الألحان المرافقة لها؟ وهل تجد صعوبة في ترتيب الموسيقى لهذه القصائد؟
القصائد القبلية والزوامل ذات الطابع القبلي هذا روتيني المعتاد بالعمل، وأكثر أعمالي قصائد قبلية، وزوامل قبلية بالعود، وأغان بدوية، واللون البدوي الذي يمتاز بالنكهة الريفية هو اللون الأساسي الذي تميزت به منذ بداية مشواري الفني، وهو تراث يمني مهما تطورت الآلات وتعاقبت الأجيال لن ينتهي أو يتغير لأنه تراث وهوية.

لون الغناء القبلي
كيف ترى تأثير القبائل اليمنية على الفن والفنانين في المنطقة؟ وهل هناك منافسة أو تعاون بين فناني القبائل الأخرى؟
تأثير القبائل اليمنية عليّ وعلى الفن والتراث أنتج لونا غنائيا خاصا يسمى «الغناء القبلي» مثل اللون الصنعاني، والحضرمي وغيرهما من الألوان الغنائية، وهو ما يتعلق بالقصيدة القبلية (الزامل في الأعراس، أو الزامل الذي يتعلق بحلول قضايا ما بين القبائل تسجل كأغنية قبلية) ويعتبر هذا كتاريخ للقبيلة -البالة- والرثاء، والأعراس، والفنانون الذين يشتغلون باللون الغنائي القبلي تجد بينهم منافسة، وتعاوني شخصيا في اللون القبلي مع الفنان المخضرم علي الغشامي، واشتركنا كثيرا في جلسات غنائية منذ أيام أشرطة الكاسيت.

سخرية وانتقادات
كيف أثرت تربيتك في البيئة القبلية على مفهومك للفن؟ هل كان له تأثير في طريقة التعبير الفني التي تتبعها؟
كنت أتلقى بعض السخرية والانتقادات في بيئتي القبلية من بعض الأشخاص، بحسب مفهومهم البدوي القبلي، ولكن كان لدي ثقة بأنني سوف انجح، لأن الموهبة والهواية بداخلي، ومن هنا يكون النجاح مضمونا مهما تحدث الآخرون.

بالات وزوامل موثقة
هل هناك فرق في طريقة تلقي الجمهور لموسيقى البالة في المناطق الريفية مقارنة بالمدن؟ وهل تحرص على تجديد الأغاني والأنماط لتلبي مختلف الأذواق؟
الفرق ما بين البالة وألحانها بين المدن والأرياف، والمناطق البدوية لا زالوا متمسكين بطابعهم التراثي حتى وإن سكنوا المدن لازالوا يحبون أسلوبهم الذي هو الموروث الشعبي البالة والزامل والقصائد. ومع انتقالهم إلى المدن واختلاطهم بها أصبح الكثير يميل للطابع الغنائي أنا حاولت أجمع ما بين الموروث الشعبي والزامل، وما بين اللون الغنائي، وأجعل الزامل على عود والبالة بألحانها ولدي الكثير مما نشر من بالات وزوامل مغناة، لأن الفنان لديه جمهور من جميع الشرائح في المجتمع، لا بد أن يكون مُلما بكل شيء لتتقبله جميع الأطياف.

تقارب العادات والتقاليد
ما هو الدور الذي تلعبه من خلال التأثير الفني بالقصائد القبلية في منطقتك بني ضبيان؟ هل ترى أن هناك اهتمامًا خاصًا بك في مجتمعك؟
الدور الثقافي الذي كنت ألعبه ليس فقط مع منطقة خولان فحسب، فعلاقاتي ممتازة بالمناطق اليمنية وبالذات المناطق الشرقية بما فيها البيضاء ومأرب، والجوف، وصعدة والمديريات الشرقية في محافظة صنعاء والمناطق الشرقية حتى شبوة والضالع ويافع وبدو الرملة، ومديريات ذمار الشرقية، برغم اختلاف اللهجات والعادات والتقاليد، والسر في ذلك أن الطابع القبلي فيه تقارب العادات والتقاليد القبلية، وتشابه المناسبات، فالفنان هو لسان التاريخ الموثق للأحداث والمناسبات الاجتماعية.

نذلل كل العوائق بالتصميم والإرادة
 ما هي الصعوبات التي تواجهونها؟ وهل تجدون اهتماما ورعاية من أي جهةٍ مختصة؟
نواجه الكثير من الصعوبات والتحديات، ورغم صعوبة الواقع واختلاف وجهات النظر وتجاهل الموهوبين في بعض المناطق، إلا أننا نصرُ على أن نمضي قدما، ونذلل كل العوائق بالتصميم والإرادة، ونتجاوز البعض منها، وبالعلاقاتِ الاجتماعية مع بعض الشخصيات المرموقة نتجاوز البعض الآخر. طبعا الجهات المعنية حتى وإن كنت مهضوما في هذا الجانب كغيري من الموهوبين، الذين لا توليهم الجهات المختصة أي اهتمام للأسف، برغم مشاركاتنا المتعددة في كل المناسبات الوطنية، وظهور أعمالي في الكثير من الفضائيات المحلية، وحصولي على جوائز وأوسمة، إلا أنه ليس لديّ راتب أو حافز شهري أسوة ببعض الفنانين.

أعتمد على موهبة الحفظ
 كيف تقوم بتجهيز أغانيك قبل أدائها؟ هل تعتمد على كتابة الألحان أم تعتمد على الموهبة والارتجال؟
أنا لا أكتب الألحان والقصائد، إنما تُقرأ عليّ وأحفظها، وأعتمد على موهبتي في قوةِ الحفظ.

فنان وحيد في منطقتي
هل هناك فنانون آخرون في منطقتك تعاونت معهم؟ كيف كانت علاقتك بهم؟
لا يوجد في منطقتي فنانون غيري، لا من قبلي ولا من بعدي، أنا الفنان الوحيد في القبيلة، ومشيت طريق الفن والتراث اليمني، وانتقلت لصنعاء منذ ثمان سنوات ومستمر بالإقامةِ فيها.

تواصل مع الجمهور
لاحظنا في الكثير من فيديوهاتك المنتشرة معظمها في الأعراس والمناسبات، هل تعتبرها فرصة للتواصل مع جمهورك بشكل مختلف؟
حضور الفنان في الأعراس والاحتفالات مهم للتواصل مع جمهوري، وتعريفهم أنني لا زلت مستمرا في العمل وهي فرصة للظهور سواءً على شبكة النت، أو القنوات الفضائية.

التراث هوية وطن
إذا كان بإمكانك مشاركة نصيحة مع الفنانين الصاعدين، ماذا ستكون تلك النصيحة؟
نصيحتي للفنانين الصاعدين والجيل الجديد منهم سواءً كان فنانا يعزف على العود، أو غيره أن يتألق بالتراث ويهتم به كون ألحانه ثابتة ومتعوبا عليها منذ مئات السنين، والموروث الشعبي هوية وطن، إذا تمسكت به فأنت ناجح وماض إلى العلياء.

الشيلات فن دخيل
انتشرت الشيلات مؤخرا ويعدها بعض النقاد أنها منافسة لما تقدمون من فنون؟
مع احترامي وتقديري لمنشدي الشيلات إلا أنها ليست من تراثنا، وليست من الفن، وهي دخيلة علينا وظهرت قريبا، وسبب انتشارها أنها فن سريع وفوضى موسيقية.