عبد الحافظ معجب

عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
منذ انتصار أيار 2000، الذي حرر الجنوب اللبناني من الاحتلال “الإسرائيلي”، شكّل سلاح المقاومة الإسلامية في لبنان رأس الحربة في مشروع التحرير والدفاع عن السيادة الوطنية. لم يكن هذا الانتصار مجرّد حدث عسكري عابر، بل كان زلزالاً استراتيجياً أعاد رسم معادلات القوة في المنطقة، وكرّس معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” كركيزة حقيقية للكرامة والسيادة اللبنانية. فلولا هذا السلاح، الذي أثبت قدرته وصموده لكانت بيروت اليوم مرتعاً للجنود الصهاينة، ولكانت المدن اللبنانية صورة أخرى لغزة المحاصرة والمجوعة والمستباحة.
هذا السلاح، الذي أرّق الكيان الصهيوني وأربك حساباته، لم يكن يوماً مشروعاً طائفياً أو أداة فئوية، بل كان ولا يزال عنواناً جامعاً لكل من آمن بخيار المقاومة، خيار الدفاع عن الأرض والعرض، ورفض الهيمنة والخنوع. لذلك، لم تتوقف واشنطن و”تل أبيب” عن محاولاتهما لنزع هذا السلاح وتفكيك بنية حزب الله العسكرية والأمنية. فمن محاولات الحرب الشاملة، إلى الاستهدافات الأمنية للقيادات، إلى العقوبات الاقتصادية، إلى الحصار السياسي، بدا واضحاً أن مشروع إسقاط المقاومة لم يخرج يوماً من أجندة الأعداء.
غير أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، ووجد الكيان نفسه، بعد سنوات من الاستنزاف والخيبات، عاجزاً عن النيل من قدرة الحزب أو صموده. ومع إدراكه لعجزه، بدأت واشنطن و”تل أبيب” بنقل هذا الملف إلى أدواتهما في المنطقة، وعلى رأسها المملكة السعودية، التي تولّت مهمة الضغط السياسي والمالي والإعلامي لمحاولة تأليب الداخل اللبناني ضد المقاومة. وقد تجلّت هذه المحاولة بوضوح في المرحلة التي تم فيها استخدام رئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، الذي رفض في نهاية المطاف أن يكون أداة لتدمير لبنان من الداخل، فكان جزاؤه الاختطاف في الرياض والإذلال والإقصاء من المشهد السياسي، لأنه ببساطة رفض أن يبيع لبنان في مزاد السياسة الإقليمية.
اليوم، يُعاد السيناريو ذاته؛ ولكن بأدوات مختلفة، تتصدرها حكومة نواف سلام، التي تنخرط في تنفيذ مشروع يفتح الطريق أمام حلم صهيوني قديم: إنهاء المقاومة ونزع سلاحها، حتى ولو كان الثمن هو تدمير لبنان. وهنا يطرح السؤال الكبير نفسه: هل تنجح السعودية، هذه المرة، في تمرير المشروع “الإسرائيلي” – الأمريكي، الذي فشل سابقاً عسكرياً وأمنياً؟
من يراقب الواقع يدرك أن هذه المحاولات تتزامن مع واحدة من أعظم معارك الأمة: معركة غزة، التي منذ 7 أكتوبر، ورغم المجازر والإبادة والحصار والتجويع، لا تزال المقاومة فيها صامدة، بل أقرب إلى النصر من أي وقت مضى. فجيش الاحتلال، الذي عجز عن حسم المعركة في حي أو شارع في غزة، بات يعترف بفشل الخيارات العسكرية أمام عزيمة المقاومين، ما يجعل لبنان، برمزية مقاومته، هدفاً تعويضياً لـ”إسرائيل” وأعوانها.
لكن لبنان، الذي يرى بأم عينه ما يجري في سورية من استباحة ودمار وصمت دولي، يتمسك بخيار المقاومة أكثر من أي وقت مضى، ويرفض العودة إلى زمن الاحتلال، حين كان بعض اللبنانيين يكتبون على الجدران “الجيش الإسرائيلي مر من هنا”، ويرفعون شعارات الندب والاستنكار. إنه شعب المقاومة، الذي لم ينسَ دماء قادته الشهداء، ولا يزال يكتب بالنار والدم أنه لن يُهزم، ولن يُستباح، ما دام فيه مقاومون يحملون السلاح والإيمان، ويتمسكون بعقيدتهم وعدائهم الأبدي لكيان لقيط وُلد من رحم الأكاذيب والتزييف، وادّعى أحقية لا يملكها على أرض ليست له.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال المشهد اليمني، الذي مثّل صدمة حقيقية لمحور الهيمنة العالمي. فالولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل”، بما تملكه من تكنولوجيا عسكرية فائقة، فشلت في كسر الدعم اليمني للمقاومة، وشهدنا كيف أن البحر الأحمر تحوّل إلى كابوس لسفنهم، وكيف أن حاملات طائراتهم غادرت المنطقة مذعورة، وكيف أن موانئ الكيان لا تزال مغلقة، ومطاراته تحت رحمة الصواريخ الباليستية والفرط صوتية اليمنية. وهذا وحده كافٍ ليؤكد أن ما عجزت عنه قوى كبرى، لن تنجح فيه أدوات محلية أو إقليمية، مهما تغلفت بخطابات الشراكة والإنقاذ.
لقد أثبتت التجربة، مرة تلو الأخرى، أن سلاح المقاومة لم يكن يوماً موجهاً إلى صدور اللبنانيين، ولم يكن مشروع حرب أهلية، بل كان حامياً وحارساً لكل الطوائف وكل المناطق، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، من صور إلى طرابلس، من النبطية إلى بيروت، ظل هذا السلاح ضمانة الأمن والكرامة، ومنع لبنان من السقوط في هاوية المشروع الصهيوني، الذي حول دولاً ومجتمعات بأكملها إلى رماد.
ولعلّ من المفارقة أن لبنان، الذي نفذ أبناؤه عمليات استشهادية في مقر الحاكم العسكري “الإسرائيلي” في صور، واستهدفوا المارينز والقوات الفرنسية في بيروت، لم يكن يملك السلاح المتطور آنذاك، بل كان يملك الإرادة والعقيدة والرغبة في التحرر؛ وهي ذاتها الروح التي يحملها اليوم المقاومون من تلامذة راغب حرب وعباس الموسوي وعماد مغنية، ومن بعدهم مصطفى بدر الدين وفؤاد شكر وهاشم صفي الدين، ويُتوِّجها قائدهم الذي قدّم كل شيء، السيد الشهيد الحي حسن نصر الله، الذي يمثل اليوم رمزاً لثبات هذه الأمة، وكابوساً دائماً للكيان وأعوانه.
وهنا يمكن القول بأن أي محاولة لنزع سلاح المقاومة، سواء جاءت من واشنطن أم من “تل أبيب”، أو عبر الرياض وأدواتها، ستُمنى بالفشل؛ لأن هذا السلاح ليس مجرد بنادق وصواريخ، بل هو شرف أمة، وهوية وطن، وروح شعب قرر ألا يركع ولا يفرّط، ولا يخون دماء الشهداء.

أترك تعليقاً

التعليقات