عبد الحافظ معجب

عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
يُعد كتاب «صعدة الحرب الأولى» للكاتب والصحفي صبري الدرواني من الوثائق التاريخية النادرة التي استطاعت توثيق واحدة من أشد المراحل قتامة في تاريخ اليمن المعاصر: حروب صعدة. هذا الكتاب لم يكن مجرد رواية صحفية، بل كان شاهدًا حيًا، دوّن تفاصيل تكاد تكون غائبة عن وعي كثير من اليمنيين، فضلاً عن القارئ العربي الذي تعرض لموجات متلاحقة من التضليل الإعلامي الذي رافق تلك المرحلة.
امتاز الدرواني في كتابه بأسلوب أكاديمي وعلمي دقيق، جمع فيه بين معايشته الشخصية للأحداث وبين شهادات حية ومقابلات موثقة، مما جعله أقرب إلى سجل تاريخي صادق يعيد رسم ملامح تلك الحقبة. إذ لم يكن المؤلف مجرد مراقب، بل عاش الأسر في معتقلات نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، على خلفية حروب صعدة، وهو ما أضفى على الكتاب مصداقية كبيرة وجرأة نادرة.
يبدأ الدرواني كتابه من مرحلة مبكرة، حين رصد بدايات التحرك الأمريكي للهيمنة على اليمن، كاشفًا الدور المركزي لسفير واشنطن الذي تحول فعليًا إلى «حاكم فعلي» للنظام المحكوم في صنعاء. يوضح المؤلف بموضوعية كيف نجحت الإدارة الأمريكية في اختراق التجمعات القبلية اليمنية، مستثمرة في تركيبتها الاجتماعية، لتمرير سياسات تخدم مصالحها الإقليمية.
من ثم، يتجه الكاتب لسرد بدايات المشروع القرآني التنويري الذي أطلقه الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي. يعرض الكتاب كيف أسهم المشروع القرآني في إعادة إحياء الروح الجهادية والثقافة التنويرية في نفوس اليمنيين، مؤكدًا على البعد السلمي لهذه الحركة منذ مراحلها الأولى. فقد بدأ شعار «الصرخة» ينتشر في مساجد صعدة وصنعاء بشكل سلمي وواعٍ، قبل أن يتحول إلى ذريعة استخدمتها واشنطن للضغط على نظام صالح لقمع هذه الأصوات.
من النقاط المضيئة في الكتاب، توثيق الدرواني لمرحلة ما قبل بدء العمليات العسكرية، حيث يبرز الوساطات القبلية والعُلمائية التي سعت لنزع فتيل الحرب. يبين المؤلف كيف أجهض صالح ومعه علي محسن الأحمر هذه الوساطات، متخذين من الذرائع والاتهامات الواهية سبيلاً لشن حرب عدوانية على أبناء صعدة. وهنا، يتفوق الدرواني في فضح التضليل الإعلامي الممنهج الذي رافق تلك المرحلة، ويفصّل الوحشية التي تعاملت بها السلطة مع أهالي صعدة من حصار وتجويع وتنكيل.
من الكنوز الثمينة التي احتواها الكتاب أيضًا، المقابلات والحوارات التي أجراها الشهيد القائد السيد حسين الحوثي مع القنوات الفضائية والصحف والمواقع الإخبارية آنذاك. كما وثق المؤلف مراسلات هامة جرت خلال فترة الحرب، هذه الوثائق التي وثقها الدرواني بخط اليد تعكس رؤى وتصورات المشروع القرآني وتكشف زيف الادعاءات الرسمية التي صوّرته كحركة متمردة. موفرًا بذلك مادة بحثية غنية للمؤرخين والباحثين في الشأن اليمني.
لم يغفل الدرواني في كتابه كشف زيف الادعاءات الأمريكية عن الحرية الفكرية، حيث أظهر بوضوح كيف مارست الإدارة الأمريكية، عبر السلطة اليمنية الخاضعة لها حينها، أشد أنواع الاضطهاد الفكري والديني. لم يكن هذا الاضطهاد مقتصرًا على إغلاق المدارس والمراكز الدينية ومنع الاحتفال بالمناسبات الدينية، بل امتد ليشمل اعتقالات طالت النساء والأطفال، في محاولة لإسكات أصوات ثقافية وفكرية مناهضة للهيمنة الأمريكية والصهيونية.
ولم يكتفِ المؤلف بسرد الأحداث فقط، بل حرص على توثيق أسماء الضحايا: القتلى والجرحى والأسرى والمفصولين من وظائفهم، ممن عوقبوا فقط لمجرد إيمانهم بفكر ومعتقد يخالف السياسة الإجرامية الأمريكية. يعيد الكتاب بذلك الاعتبار لهؤلاء الذين دفعوا حياتهم أو حريتهم ثمنًا لرفضهم البقاء في خانة الصمت.
كما يلفت الدرواني في كتابه إلى الدور السلبي للعديد من الأحزاب والصحفيين الذين اصطفوا مع السلطة في عدوانها الغاشم، مسلطًا الضوء على تضليلهم للرأي العام المحلي والعربي. لكنه في الوقت ذاته لم يغفل إنصاف الأصوات التي تضامنت مع أهالي صعدة: الوقفات الاحتجاجية، الاعتصامات السلمية، البيانات الصادرة عن الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والشخصيات العلمائية التي وقفت إلى جانب المظلومين.
باختصار، فإن كتاب «صعدة الحرب الأولى» ليس مجرد توثيق لتاريخ دموي وحشي، بل شهادة حية على صمود شعب رفض الاستسلام وأصر على الدفاع عن هويته وكرامته. وهو في الوقت ذاته رسالة أكاديمية مهمة، تكشف زيف الروايات الرسمية وتعيد للحقائق اعتبارها، لتبقى نبراسًا للأجيال القادمة في فهم تاريخهم والتمييز بين التضليل والحقيقة.

أترك تعليقاً

التعليقات