الحرب التركيبية واستثمار «الضحية المقدسة» قراءة في التاريخ والنموذج اليمن
- عبد الحافظ معجب السبت , 5 يـولـيـو , 2025 الساعة 1:12:19 AM
- 0 تعليقات
عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
تعد الحرب التركيبية واحدة من أخطر أساليب الهيمنة الحديثة التي طورتها الولايات المتحدة، مستفيدة من تجارب تاريخية طويلة في توظيف أدوات ناعمة وخشنة معاً، لإحداث تفجير داخلي في الدول المستهدفة. تقوم هذه الحرب على مزيج معقد من الوسائل الإعلامية والسياسية والعسكرية والثقافية والنفسية، ويُستخدم فيها الأفراد والجماعات كأدوات وأوراق ضغط يتم تحريكها ضمن سيناريو مدروس، وصولاً إلى صناعة الفوضى أو تقويض استقرار المجتمعات من الداخل. وفي قلب هذه الحرب يظهر مفهوم "الضحية المقدسة" أو "الدم المقدس"، حيث يُدفع بعض الأفراد إلى المواجهة المحسوبة سلفاً لإسقاطهم قتلى وتحويل دمائهم إلى مادة تحريضية قابلة للاستثمار سياسياً وإعلامياً، وتوظيفها لإثارة مشاعر الغضب الشعبي أو إذكاء النزاعات الداخلية. وهو أسلوب استخدمته الإدارات الأمريكية مراراً في مناطق مختلفة حول العالم لإنتاج بيئات من الفوضى الخلاقة.
وعند إسقاط هذا النموذج على واقع اليمن، نجد أن ما حدث في قضية الشيخ صالح حنتوس ليس سوى مثال واحد على الحرب التركيبية وأساليبها القذرة. لقد تمّت فبركة قضيته في مطابخ العدوان على اليمن، ضمن خطة مدروسة لتحريكه في لحظة محددة، مع سبق العلم بمصيره المحتوم. ولعلّ المثير للدهشة أن الجهات التي دفعت به إلى المواجهة، وهي نفسها الأبواق الإعلامية والمنصات الفندقية والجهات الممولة، كانت تدرك تماماً أن نهايته ستكون الموت؛ لكنها احتاجت دماءه مادة لإذكاء حملة تحريض وفوضى داخلية. وبعد مقتله، انتقلت هذه الأطراف سريعاً إلى مرحلة العويل والتباكي، محاولة تصويره ضحية بريئة، لتجييش الرأي العام وتوظيف قضيته في مسار التحريض ضد استقرار البلد.
لقد مارس صالح حنتوس، بوضوح لا لبس فيه، أنشطة معادية للوطن، وارتهن بشكل مباشر لأجندة العدوان. لم يكن مجرد شيخ مسالم كما تحاول بعض الأبواق تصويره، بل حرض علناً على الدولة ومؤسساتها، وسعى لإثارة الفتنة داخل مجتمعه وقراه، وحوّل نفسه إلى أداة بيد العدوان ينفّذ بها أجندة خارجية لتقويض الأمن الداخلي. والأسوأ من ذلك كله أن حنتوس لم يكتفِ بالتحريض اللفظي مستغلاً موقعه كرجل دين أو حافظ للقرآن، بل تجاوز ذلك إلى الفعل الدموي؛ إذ اعتدى على رجال الأمن، وقتل ثلاثة منهم ظلماً وعدواناً. إن كونه شيخاً أو مدرساً للقرآن، لا يلغي عنه صفة القاتل، فهذه الصفة تتحدد بالأفعال لا بالألقاب أو المظاهر. ولعل من المفارقات أنّه رفض جميع الوساطات التي بذلتها الدولة والمجتمع المحلي لتسليم نفسه سلمياً، وأصر على حمل السلاح في وجه قوات الأمن، مع علمه بأن النهاية ستكون حتماً المواجهة المسلحة.
لقد انكشفت الماكينة الإعلامية، المحلية والخارجية، التي تولّت تحريكه منذ البداية؛ إذ تكشّفت تحركاتها وخطابها التحريضي الذي استثمر كل تفاصيل مقتله، محاولة قلب الحقائق وتشويه صورة الدولة التي تحمّلت عبء الدفاع عن الأمن الداخلي من جهة، وفي الوقت نفسه تقف في الصفوف الأمامية نصرةً لغزة ومقدسات الأمة من جهة أخرى. إن ما فعلته هذه الأبواق من تهويل وتضليل فشل في تحقيق أي هدف، نتيجة وعي المجتمع المحلي، الذي أحبط المحاولة وأدرك طبيعة المؤامرة. فقد أدلى شهود العيان وأهالي المنطقة بشهاداتهم بوضوح، كاشفين حقيقة ما جرى، ومؤكدين حجم الإجرام والتمرد الذي مارسه حنتوس وأتباعه. كما أفشل وعي الأهالي ومنطقهم السليم المخطط، وقطع الطريق أمام المستثمرين وأوقف استغلال الحادثة وأحبط بؤر توتر أمني جديدة.
إن الحرب التركيبية ليست ظاهرة عابرة أو حدثاً معزولاً. فقضية صالح حنتوس هي واحدة من أمثلة عديدة على هذا النمط من الحروب، ولن تكون الأخيرة، ما دامت دول العدوان تواصل مخططاتها لاستنزاف اليمن من الداخل. غير أن ما أثبته اليمنيون مراراً هو أن وعيهم الجمعي أقوى من هذه المحاولات، وأنه مهما تطورت أدوات الحرب النفسية والإعلامية، فإن الحقائق الراسخة على الأرض ووعي الناس يبقى الحاجز المنيع أمام مشاريع التقويض والفوضى. لقد فشلت آلة العدوان العسكري والجوي بقيادة أمريكا وغارات "إسرائيل" في تحقيق أهدافها الاستراتيجية أمام صمود اليمنيين، فلجأت إلى الحرب التركيبية كسلاح بديل لتحقيق ما عجزت عنه الطائرات والصواريخ. ومع ذلك، فإن رهانها على هذا النوع من الحروب أثبت أنه رهان خاسر، ما دام الشعب اليمني متمسكاً بموقفه الديني والأخلاقي، واثقاً بعدالة قضيته، ومتوكلاً على الله في مواجهة التحديات مهما عظمت.
إن اليمن اليوم، وهو يقدّم موقفاً مشرفاً في الدفاع عن غزة ومقدسات الأمة، يجد نفسه مستهدفاً بمزيد من أساليب الحرب التركيبية، وغيرها من حروب الجيل الرابع والخامس. وقد نشهد مفاجآت أخرى في هذا السياق. لكن المؤكد أن رهانات الأعداء ستصطدم دوماً بجدار الوعي والإيمان الشعبي، الذي بات اليوم أكثر صلابة وتجربة. فما لم تحققه آلة الحرب العسكرية لن تنجح فيه حملات التجييش الإعلامي، ولا مشاريع "الدماء المقدسة"، ولا المسرحيات المحبوكة التي يُراد منها تفجير الداخل. إن استشعار هذه الحقيقة والتمسك بها مسؤولية وطنية وأخلاقية تتطلب من كل فرد وناشط وصاحب رأي أن يقرأ الحدث بوعي ناقد، وأن يفهم الخلفيات التي تحرّك "الأبطال" (الزائفين) نحو نهايات معروفة سلفاً؛ كي لا نمنح العدو مادة مجانية لاستكمال مشروعه التخريبي.
في الختام: إن دماء صالح حنتوس وأمثاله لن تكون سوى وقودٍ لحربٍ تركيبية لن تنجح في اختراق وعي اليمنيين. فالشعب الذي يقدّم دماءه نصرة لفلسطين ومقدساته، لن يُخدع بدماء تُستثمر لتشويه صورته أو ضرب وحدته الداخلية. وبين وعيد الأعداء وتضحيات الشعب اليمني، ستبقى الحقيقة راسخة: أن اليمن عصيٌّ على التركيع، وأن أبناءه اليوم أكثر جاهزية لإفشال كل مؤامرة، صغيرة كانت أم كبيرة، طالما بقيت بوصلتهم نحو الحق ثابتة، وطالما ظلّوا أوفياء لقضيتهم الكبرى، متوكلين على الله وحده في مواجهة مكائد المعتدين.
المصدر عبد الحافظ معجب
زيارة جميع مقالات: عبد الحافظ معجب