المظلومية السُّنّية طريقة لتجريد السُّنّي من إنسانيته.. المؤامرة على المجتمع السُّنّي في سورية
- نارام سرجون الأحد , 4 مـايـو , 2025 الساعة 1:43:47 AM
- 0 تعليقات
نارام سرجون / لا ميديا -
يأبى كل من يدلي بدلوه هذه الأيام في الوضع السوري، إلا أن يمر على النظام السابق ويذكرنا بأنه كان يعارضه لأنه كان ديكتاتورياً وأنه دمر البلاد والعباد... هذا طبعاً من طبيعة الحروب السيكولوجية، حيث يريد من يدير العقل السوري والمسلم اليوم أن يكتب ذاكرة جديدة لا علاقة لها بالحقيقة، بل بأفلام وروايات صُنعت في مكاتب الدعاية السوداء. وهناك عمل تشتغل عليه هذه الدعاية في اتجاه تكريس الكراهية لدى الإنسان السُّنّي ضد الآخرين، وخاصة ضد الشيعة والعلويين ومجمل الأقليات؛ ولكنه يخص توجيه الكراهية ضد العلويين لغاية أخرى. والكراهية الناشئة تصنعها المشاعر العميقة والمأزومة بالمظلومية العميقة.
لم يتمكن أصحاب "الثورة السورية" من إطلاقها بحجة الكرامة وأظافر الأطفال؛ لأن أي عاقل يدرك أن الشعار هو مجرد ضوضاء لا صدى له؛ لأن الشعب السوري كان يحس بكرامته الوطنية واعتزازه بنفسه كأفضل شعوب المنطقة تعليماً وثقافة، وهو مكتف اقتصادياً، وصاحب أهم وزن سياسي في المنطقة أرغمت الأمريكان على الرضوخ له وحسابه في أي معادلة سياسية طوال خمسين سنة. لكن تم اختراع المظلومية السُّنّية التي بنيت على حدثين سابقين: الأول: في خلق المظلومية السُّنّية العراقية بإنجاز إعدام صدام حسين، والثاني: في خلق المظلومية السُّنّية في لبنان عبر قتل الحريري. وكان لا بد من وضع الثالوث في المظلومية باختراع المظلومية السُّنّية في سورية، التي استفادت دعايتها من المظلوميتين السابقتين.
كل خطاب المعارضة تحول بشكل سريع في الأشهر الأولى للحرب السورية من الكرامة والحرية إلى المظلومية السُّنّية وأهل السُّنّة الذين "يقتلهم العلويون والنظام النصيري"، حتى تشكل وعي مختلف وإحساس مضخم بالمظلومية السُّنّية، رغم أنه في جميع المواجهات بين الدولة السورية (التي سميت بالعلوية) مع المعارضين كانت القوى الإسلامية السُّنّية هي المبادرة بالاعتداء. ففي مجزرة مدرسة المدفعية قررت الجماعات الإخوانية الإسلامية التعبير عن رفضها للنظام ببيان دموي عكست من خلاله رؤيتها ومظلوميتها عبر رفضها العنيف للأقليات، وهي أنها ترى الأكثرية الدينية هي الأولى بالحكم (وليس الأكثرية الحزبية أو السياسية كما جرت عليه العادة في البلدان المتقدمة). فكان تخصيص العلويين بالمجزرة رسالة للأقليات وإعلان المظلومية السُّنّية بأنها أكثرية مظلومية لأنها لا تحكم. ومنذ ذلك الوقت وقعت أحداث حماة التي أيضاً كانت جماعة الإخوان المسلمين هي الجهة المبادرة بالهجوم والعنف، وهي التي يجب أن يوجه لها اللوم الأكبر في تلك الأحداث، فهي التي اختارت نوع المعركة ومكانها وطبيعتها وفي قلب إحياء المدنية، وهي التي بادرت إليها، وليس جيش الدولة.
المظلومية السُّنّية صارت جزءاً من الوعي الجماعي والجمعي، وصار كل ما تقدمه الدولة السورية التي سقطت لا يشبع رغبتها في التخلص من الشعور بالمظلومية. والغريب أن دورة العنف التي دمرت سورية لا يراها العقل المظلوم على أنها من صنعه هو، بل في ضميره ووعيه أن كل القتل والموت حدث بيد النظام، وكل الشر تسبب به النظام، وكل التهجير تسبب به النظام. ورغم أنه كان يرى أن المعارك تخوضها الجماعات المسلحة في شوارعه وأحيائه ولا تبالي بالثمن الذي تدفعه هذه الأحياء فإنه يلوم الدولة على كل رصاصة وقذيفة، رغم أنه -ووفق العقد الدستوري- فإن الدولة مكلفة بحمايته وإبعاد العنف والأعمال المسلحة عن المدنيين والمدن. وحاولت الدولة جاهدة تحييد المدنيين وإبرام المصالحات التي لم تكن غالباً في صالحها. ولو لم تفعل فإن ذلك سيعني دستورياً وأخلاقياً أنها تتخلى عن واجبها الدستوري.
أيضاً لم يتمكن أي جهد من إقناع كثير من الناس بأن "قضية الكيماوي" ليست حقيقية، وأنها ملف سياسي للابتزاز فقط. ولا يقبل العقل السُّنّي المعارض إلا أن ينسب الضربات الكيماوية المزعومة للدولة والنظام. ولكن السبب الحقيقي للعناد والرفض ليس لأن المواطن لم يقتنع بالبراهين التي تبرئ الدولة، بل لأنه يريد أن يبرر مظلوميته وحقه في تدمير الدولة التي "تدمره بالكيماوي". فالإيمان واليقين بـ"الكيماوي" هو من طرق تعزيز المظلومية السُّنّية، وطريقة لتبرير العنف تجاه الآخر. وهذه هي الطريقة لتجريده حتى من حسه الإنساني، بدليل أن المذبحة في الساحل كانت تباركها الأصوات الحاقدة وتدعو إليها ويلاقيها برود سُنّي، بحجة أن "براقش جنت على نفسها". ولكن الحقيقة هي أن جزءاً من الكتلة السُّنّية تم تجريدها من الإنسانية عبر حقنها بالكراهية وتلقينها قصصاً مضخمة ومشوهة عن حقيقة الفظائع التي تعرضت لها، وصارت الإنسانية لديها تقتصر على وجعها الخاص الضيق فقط، لأن شعورها بالمظلومية تورم جداً وغطى على بقية الأحاسيس الطبيعية للأسف.
تأتي قضية تهجير السكان ليصب اللوم كله على الدولة، التي حاولت أن تتجنب وجود مهجرين، ولكنها كانت تواجه عصياناً في الأحياء، وتواجه أعمال عنف وانتشاراً لجماعات فوضى، حيث اختارت هذه الجماعات عن عمد خوض المعارك في المدن والبلدات، لأنها كانت تريد خلق مشكلة استقرار وتهجير. ولا يمكن، بل ويستحيل أن يكون التهجير سياسة الدولة التي خاضت صراعاً مريراً لتحييد المدنيين. ولكن المشكلة أنه تم حشو مظلومية جديدة، وهي أن المهجرين فقدوا بيوتهم بسبب سياسة التهجير، التي اتبعتها الدولة، رغم أن الحس السليم يدرك أن المهجرين تركوا أماكن سكناهم بسبب انعدام الأمن وتحول مناطقهم لمناطق نزاع وحرب فرضتها النشاطات العسكرية والقتالية للمجموعات المسلحة التي دخلت بسلاحها عنوة إلى تلك المناطق وفرضت معركة داخلية على الدولة تسببت في هروب السكان من النزاع؛ وإما أن كثيراً من الخارجين من البلاد نزحوا بسبب الوضع الاقتصادي المتوحش بسبب الحرب وتلاشي فرص العمل، وكان هروباً اقتصادياً تسببت فيه نشاطات "المعارضة"، التي كانت تتباهى بأنها دمرت اقتصاد النظام (حتى ولو كان على حساب السكان السوريين).
المظلومية السُّنّية هي شيء مُضخّم ومُصنّع ليتحول إلى عقدة نفسية ساهمت في أن يصبح الشعور بنهاية المظلومية هو في وصول أي نظام حكم سنّي، والقبول بأسوأ نموذج يمكن أن يحكم سورية (كان المؤسسون الأوائل للدولة السورية يرفضونه وينظرون له باحتقار). النموذج الظلامي لن يضمن استمراره إلا إبقاء الشعور بالمظلومية حياً. ولا يمكن إبقاء الشعور بالمظلومية إلا عبر حقن الجمهور بالكراهية ضد إخوانهم العلويين وتحميلهم عقدة الذنب تجاه كل الأحداث، وتبرئة كل الذين ارتكبوا الجريمة الكبرى في سورية من هذا الوزر.
ولكن كي يستمر الشعور بالمظلومية يجب أن يستمر الشعور بالهوية الدينية السُّنّية. وهذا لن يكون إلا عبر ضخ المزيد من التديُّن والتمذهب والاختباء تحت ظل الطائفية السُّنّية؛ أي: نشر التديُّن الظلامي، واعتماد نموذج "طالبان" ونموذج "داعش" للحياة؛ أي أن المجتمع سيتحول بالتدريج السريع نحو الخروج من الجامعات إلى الالتحاق بالجوامع، وستتراجع عملية التعليم والوعي، ويتم التركيز على الدراسات الإسلامية التي لن تقدم شيئاً للمجتمع، وسيكون مصير المجتمع السوري أنه سيتحول إلى مجتمع خامل، ميت، ينتظر الجنة والنار والمعجزات، ويعيش أساطير الدين، ويصبح بلا قدرة على الإنتاج، كما حدث مع المجتمع السعودي، الذي نام عقوداً بسبب الرعب من العقاب العنيف للمجموعات الدينية، التي حولته إلى مجتمع يقوده الجامع والمفتي.
خلال سنوات، إذا نجح المشروع الغربي في فصل الداخل السُّنّي عن تأثير التفاعل مع المجتمعات المتعلمة والمنفتحة، وخاصة في الساحل السوري، الذي بحكم اتصاله بالبحر المتوسط سيبقى قادراً على أن يكون متنوراً أكثر ومتعلماً أكثر، وسيغرق السُّنّي الداخل في الظلام، وهذا ما نرى اليوم أنه هدف أمريكي واضح لتحويل المذهب السُّنّي في الشام إلى مفرخة للإرهاب والمجاهدين ورجال الدين... وهذا النموذج هو الأفضل لأمن "إسرائيل"؛ لأنه لن يقدر على التطور، وسيكرر مأساة المجتمع السعودي، الذي -وللمفارقة- بدأ يحاول الخروج منها، وحدث تبادل أدوار سيكون كارثياً على المجتمع السُّنّي الشامي حتماً، الذي دخل مرحلة الظلام، وخان نفسه؛ لأن الدخول في الظلام عمداً وبرغبة واندفاع هو خيانة للذات، وقتل للذات، والغرق في الظلام وفقء العيون لتمنع عنها النور والبصر هو جريمة يرتكبها النسان بحق نفسه وأبنائه.
لن ينقذ السُّنّة في الشام أحد، إلا السُّنّة في الشام أنفسهم، الذين وقعوا في فخ تاريخي وهم الصيدة الحقيقية التي وقعت على رأي حمد بن جاسم القطري الذي كان يقول إن الصيدة هربت وأفلتت. ولكن الصيدة الحقيقية وهدف الحرب هو سُنّة أهل الشام بالذات، الذين ستتقاسمهم تركيا والسعودية و"إسرائيل" وأمريكا وقطر. وستكون هزيمة النظام السابق هي هزيمة لأهل السُّنّة لن يدركوها، بل ستدركها أجيالهم اللاحقة، التي ستفتح هذه المرحلة وتقرأ كم كان أهل السُّنّة في الشام عُرضة لمؤامرة رهيبة استهدفتهم وضللتهم وأوقعتهم في براثن الجهل والتخلف... مؤامرة ستنجو منها الأقليات السورية، التي لن تقع في الفخ التكفيري، بل وستعمل قوى كبرى على منحها وضعاً تفضيلياً لتكون مثل النمور الآسيوية اقتصادياً. فهي في النهاية أقليات لا تقدر على صنع دول مؤثرة عسكرياً، بل بؤر اقتصادية ومحطات استثمار، على عكس الكتلة السُّنّة الكبيرة التي يمكن أن تشكل بؤرة توسع وانتشار وقوة عسكرية؛ لكنها الآن وقعت في الأسر، وسيتم ترويضها مثل النمر البري الذي سيصبح مشاركاً في ألعاب السيرك الإقليمي بعد أن كان طليقاً وخطراً، وسيكون ناطوراً على مشاريع أمريكا فقط وخزاناً بشرياً لحروبها القادمة. إنه العقل الانجلوساكسوني الذي رسم "سايكس بيكو" وخلق هويات لبنان والأردن من لا شيء. هو نفسه اليوم يخلق الوهم والمظلومية السُّنّية، التي يحركها اليوم ويصنعها في الساحل لصنع مظلومية علوية بالقوة والدم والمذابح لتصبح خزاناً للكراهية المناقضة، ليستفيد منها أيضاً في مشاريعه القادمة.
تذكروا؛ لن ينقذ أهل السُّنّة في الشام لا أمريكا ولا مجلس الأمن ولا العرب ولا أوروبا، بل إن الجميع يتآمر عليهم، فقط أهل السُّنّة في الشام هم من يقدرون على إنقاذ أنفسهم والاستيقاظ من هذا الوهم وهذا الجنون الجماعي. عليهم أن يخرجوا في الطرقات لإيقاف هذه المهزلة قبل أن يتأخر الوقت وتأكلهم المهزلة، وتأكل أكبادهم، وفلذات أكبادهم.
المصدر نارام سرجون
زيارة جميع مقالات: نارام سرجون