تغلغل المشروع الصهيوني في واشنطن
- فهد شاكر أبو راس الأحد , 9 نـوفـمـبـر , 2025 الساعة 12:06:16 AM
- 0 تعليقات

فهد شاكر أبوراس / لا ميديا -
بعد مرور أكثر من قرن على «وعد بلفور» المشؤوم، لا تزال الآلة الصهيونية تعمل بلا كلل لنسج خيوط هيمنتها على السياسة الأمريكية، حتى باتت واشنطن -في كثير من مواقفها- تنطق بلسانِ كيان الاحتلال.
فالصورة المثالية التي تروّج لها الولايات المتحدة عن نفسها كمعقل للديمقراطية وحقوق الإنسان، تتهاوى عند أول اختبار حقيقي، حين يظهر تناقضها الأوضح: الدعم غير المشروط والمطلق لكيان الاحتلال.
هذه الظاهرة ليست صدفةً عابرة، ولا نتاج تقارب قيمي مؤقت، بل هي ثمرة استثمار استراتيجي طويل الأمد، متعدد الأوجه، نفّذه مشروع استعماري استطاع أن يبني في قلب الإمبراطورية الأمريكية أقوى شبكة نفوذ سياسي في التاريخ الحديث. إنها قصة تحولت فيها الفكرة الصهيونية من حلم ديني عند طائفة من المسيحيين الإنجيليين المتطرفين إلى سياسة دولة عظمى تُحدّد مسارات العالم.
ولا تعتمد هذه القصة على مؤامرة سرية خفية، بقدر ما تعكس نجاحاً مؤسّسياً منهجياً في اختراق آليات صنع القرار واحتوائها، لتوجيهها نحو خدمة أهداف لا تتوافق -في كثير من الأحيان- مع المصلحة الوطنية الأمريكية، بل وغالباً ما تتعارض مع أبسط مبادئ العدالة والإنسانية.
وُلدت هذه العلاقة الوثيقة من رحم تحالف غير مقدس بين قوى مختلفة في الدوافع؛ لكنها متجانسة في الأهداف.
فبحسب المؤرخين، لم تكن الجذور الأولى للوبي الصهيوني يهودية، بل مسيحية إنجيلية بروتستانتية نبتت في بريطانيا الفيكتورية خلال القرن التاسع عشر.
هؤلاء الإنجيليون، المستندون إلى تفسير حرفي مشوّه للنبوءات الكتابية، رأوا في «عودة اليهود إلى فلسطين» تمهيداً لمعركة «هرمجدون» ونهاية العالم. فتحالفوا مع إمبرياليين بريطانيين رأوا في تفكيك الإمبراطورية العثمانية فرصةً استراتيجية، ومع صهاينة وجدوا في هذين الطرفين حليفاً قوياً لتحويل حلمهم إلى واقع سياسي.
وكان «وعد بلفور» عام 1917 هو الثمرة الأولى لهذا التحالف الغريب. و»وعد بلفور» هو ذلك الخطاب القصير الذي غيّر وجه التاريخ، حين وعدت بريطانيا بـ«وطن قومي لليهود في فلسطين»، ليس بدافع النبل الأخلاقي، بل كصفقة استراتيجية لتعزيز المصالح الإمبريالية البريطانية.
ومع أفول نجم لندن وبزوغ نجم واشنطن، بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ مركز الثقل الصهيوني ينتقل عبر المحيط الأطلسي. وكان «مؤتمر بلتيمور» في نيويورك عام 1942 بمثابة ولادة للمشروع الصهيوني في السياق الأمريكي، حين طُرحت لأول مرة المطالبة بإنشاء «دولة يهودية» في فلسطين، ممهدة الطريق للقرار الدولي المشؤوم رقم (181) عام 1947.
لم يترك الصهاينة الأمر للصدفة، بل بدأوا فوراً في بناء آلة ضغط لا هوادة فيها، تحوّلت مع الزمن إلى واحدة من أقوى كيانات النفوذ في المشهد السياسي الأمريكي، وذلك عبر شبكة معقدة ومترابطة تشكّل نظاماً كاملاً للتأثير، في قلبها تقف منظمات مثل «أيباك» (لجنة الشؤون العامة الأمريكية - «الإسرائيلية»)، التي أصبح اسمها مرادفاً لـ«اللوبي الإسرائيلي»؛ لكن أيضاً هناك «مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى»، وربما الأهم: «المسيحيون المتحدون مِن أجلِ إسرائيل»، الذي بات يُوصَف بأنه أكبر «لوبي» مؤيد لكيان الاحتلال في الولايات المتحدة على الإطلاق؛ ما يكشف استمرار التحالف التاريخي بين القوى الصهيونية والمسيحية الإنجيلية.
تعمل هذه الشبكة عبر آليات دقيقة لا تخطئها العين، فتموّل المرشحين المخلصين لكيان الاحتلال، وتدمّر -عبر حملات تشويه منظمة- كُلّ من يجرؤ على انتقاد سياساتها، كما تروّج عبر وسائل الإعلام لرواية أحادية تُضفي شرعية على أفعال كيان الاحتلال، حتى لو بلغت حَدّ العنصرية أو جرائم الحرب. ففي حرب غزة الأخيرة، لم يُكتفَ بالدفاع عن القصف، بل تم ترويج فكرة تهجير سكان غزة كـ«حَلٍّ إنساني».
هذا النفوذ لم يبقَ حبيس الكواليس، بل تجسّد في وقائع ملموسة. فقد استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو في مجلس الأمن مراراً لحماية «إسرائيل» من أية مساءلة دولية، حتى حين يتوافق العالم بأسره على إدانتها.
خلال الحروب على غزة، وقفت الإدارات الأمريكية -ديمقراطيةً أكانت أَو جمهورية- عائقاً أمام وقف إطلاق النار؛ ما مكّن من استمرار القتل والدمار.
تتدفق مليارات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين سنوياً لتمويل القوات «الإسرائيلية»، لضمان تفوّقها العسكري المطلق، ما يجعل واشنطن شريكاً صامتاً في كُلّ عدوان.
وتبقى الحقيقة القاسية أن النظام الانتخابي الأمريكي يفتقر إلى الآلية الفعّالة للتحرّر من هذا النفوذ المؤسّسي. فالمؤسّسات السياسية صُمّمت بحيث يصبح الخروج عن الإجماع المؤيد لـ»إسرائيل» انتحاراً سياسيّاً لأي مرشح، ما يجعل الانتخابات مجرد طقس شكلي متكرّر، يُضفي شرعيةً على سياسات ثابتة لا تتزعزع، تخدم مصالح نخبة نافذة ومشروعاً استعمارياً عنصرياً، على حساب المصلحة الأمريكية نفسها، وعلى حساب شعوبٍ أُخرى تدفع الثمن من دمائها وأرضها.
في هذه الدراما السياسية التي تتكرّر كُلّ أربعة أعوام، يتصارع المرشحون على من يُظهر ولاءً أكثر لكيان الاحتلال، بينما يظل حق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة الحلقة المفقودة، والضحية الدائمة في معادلةٍ صُمِّمت لإهدار إنسانيته، وضمان استمرار النهب باسم «الأمن» و«الديمقراطية».










المصدر فهد شاكر أبو راس
زيارة جميع مقالات: فهد شاكر أبو راس