سامي عطا

د. سامي عطا / لا ميديا -
ثمّة سلوكٌ مَرَضي تُظهره بعض النُّخَب عندما تفشل في فرض تصوّراتها على الواقع، وعندما تَخْفُت أصواتُها في الزِّحام الجماهيري الذي يتبنى رؤى أخرى. في هذه اللحظة الحرجة، تلجأ إلى آليّة الدفاع الأكثر بدائيّة: وصم الجماهير بـ»القطيع»، مُنْزلَةً من قيمة عقولها وخياراتها.
وما قد تَغْفل عنه هذه النخبة المُتعالية هو أن هذه الصفة تحديداً ليست بريئة؛ فهي إحدى الأدوات البلاغية في ترسانة الفكر الليبرالي المتطرف، التي تهدف في جوهرها إلى تفكيك أي شكل من أشكال التضامن الاجتماعي أو الحراك الجماعي الذي يُهدد مصارف القوة ومصالح النخب المالية والسياسية المسيطرة.
والمُفارقة الصادمة أن هذه العقول -التي تَزْعُمُ التفوق وتتبنى خطاباً فردانياً متطرفاً- تُظهر عجزاً فادحاً عن قيادة الجماهير أو فهم تحوّلاتها. والسؤال المُلِحّ: لو تحقّقت لها الحظوظ يوماً، وحصلت على تلك الجماهيرية التي تتوق إليها، فكيف ستنظر إلى أتباعها؟! ألن يظلوا في عُرفها «قطيعاً» طالما وافقوها، ليُنبَذوا فوراً إن اختلفوا؟!
لقد رأيتُ النموذج الحي لهذه «النخب المتعالية» في مشهدٍ عابر. منشورٌ فارغ من المضمون لأحد الذين يُصَنَّفون ضمن «جهابذة» الفكر -عفواً، أقصد «صغار» الجهابذة- لا يحوي سوى رصف كلمات جوفاء وبَهرجة لغوية تخلو من أي عمق معرفي. ومع ذلك، اجتاحته موجة تعليقاتٍ من أتباعه لا تخرج عن إطار «التهليل والإطراء الأعمى»، دون أدنى محاولة لمناقشة أو حتى تساؤل، وكمّ هائل من إعادة مشاركته، سواءً في وسائل التواصل الاجتماعي أو تم تحويله إلى مقال صحفي في العديد من المواقع الإلكترونية.
هنا ظهر «القطيع الحقيقي»، ليس قطيعَ العامة البسيطة، بل «قطيع النخبة» الذي يقدّس رموزه دون وعي، ويُحيلهم إلى أصنام فكرية لا تُناقش. إنها الدائرة المفرغة: نخب تنتقد «قطيعية» الناس وهي تستخدم أدوات أيديولوجية مصممة لتحطيم التضامن، ثم تغوص هي نفسها في مستنقع التبعية الفكرية الأكثر ظلامية. فما أشبه الانتقاد حين يكون مرآةً تعكس عيب الناقد نفسه، وأداةً يستخدمها لضرب أي احتمال للتجمع حول فكرة مشتركة!

أترك تعليقاً

التعليقات