لا أعز ولا أشرف من الإحسان بالكلمة
 

عبدالفتاح حيدرة

#عبدالفتاح_حيدرة / #لا_ميديا -

سامحوني، فهناك الكثير الذي أريد التحدث عنه، والأكثر منه ما يقتضي السكوت. وسأبدأ بما يقتضي السكوت، وهو بعض كتابات الوصاية المتعجرفة، ورسائل التنفير البغيضة، وتوزيع صكوك الغفران، والنخيط، وإلقاء التهم والتقزيم، وممن نكن لهم كل الحب والود والاحترام والتقدير، سواء كانوا أقارب أم أصدقاء أم أساتذة، ونعتبرهم دوما موجهين لنا وقدوتنا وسادتنا، ولكن أسلوبهم ينفر ويكفر ويشحن الصدور بالبغضاء. أما ما أريد التحدث عنه كثيرا فهو نبل وعظمة وبيان ورسائل وعي وقيم وأسلوب ما يكتبه أولئك القلة، الذين لا ولم نعرفهم أو نلتقي بهم، ويشهد الله لو أني كنت مرتزقا، بل لو كنت داعشيا، وأدخل صفحاتهم وأقرأ ما يخطونه فيها، لتركت الارتزاق والدعشنة واتبعت هداهم، فلا أعز ولا أنبل ولا أشرف ولا أطهر من الإحسان بالكلمة.
يا سادة، أنا لا أدعي شيئاً، ولا أبحث عن شهرة فيما أكتبه؛ لكن كل الذي عرفته وتعلمته وتفكرت فيه أن جوهر التنوير (الوعي بهدى الله) هو استخدام العقل، وعدم الارتهان لرؤى الآخر، سواء كان هذا الآخر شخصا ذا سلطة عليك، أم كان تراثا يمارس سياسة سلطته عليك باسم القداسة، لأن التعلق بما يراه الآخر، سواء كان خوفا أم كسلا أم دافعا ماديا، هو توقيف للعقل عن إدراك حقيقة العالم الذي يعيشه، والدوران في فلك عقول لا تعيش عصرنا السياسي، سواء كانت عقولاً جاءت في الماضي وبالتالي فهي غير قادرة على قراءة عصرنا، أم كانت عقولاً تمارس وصايتها عليك تحت أي مبرر، فهي عقول لا تؤمن بروح عصر العقل حتى لو كانت تحيا في ظله.
الله سبحانه وتعالى خاطب العقل البشري في كتابه الكريم: {أفلا تتفكرون}، {أفلا تعقلون}، {يا أولي الألباب}... فإذا كان إعمال العقل هو جوهر التنوير ومعرفة هدى الله، فإن احترام الإنسان صاحب العقل وتقديس حقوقه هو جزء أصيل لا ينفصل عن خطاب التنوير، لأن العقل الذي من المفترض أن يعمل بجرأة وفقا لتوجيه كتاب الله، لا بد أن يجد مناخا مناسبا كي يعمل بهذه الجرأة، بينما انتهاك وتسفيه وتحقير واتهام الإنسان ومعاملته باعتباره قاصراً لا يمكن أن يكون مناخا مناسبا للفعل التنويري أو الفهم الواعي، وأي خطاب للتنوير في ظل مناخ الوصاية -أيا كان نوعها- لن ينمو، وفي أحسن الأحوال سينمو شائهاً، لأنه خالف جوهر الدعوة الإلهية وأخذ بعض التفسيرات السياسية من المقولات الشكلية لا أكثر ولا أقل.
ولذلك يمكن رصد حالة التوافق ما بين الخطاب الوصائي المنغلق، وبين ظهور تحالفات الأنظمة الاستبدادية، فالخطاب المنغلق يحاصر العقل ويؤخره إلى ذيل القائمة، هذا إن اعترف به أساسا، وبالتالي ينفي -سواء أدرك أو لم يدرك- عن الإنسان أهم مقوماته، وهو التفكير. وهذه البيئة الوصائية هي المناسبة لبناء تحالفات الأنظمة الاستبدادية، التي يكون جل همها وجهدها مبذولا في استكمال دور الوصاية على الإنسان تحت شعارات عديدة، وتؤخر استحقاقات الإنسان في حياة كريمة تلائم إنسانيته وحريته واستقلاله، وتقزمه وتهين كرامته وتهدر شرفه، وترفض بناء على ذلك أي فكرة أو فكر تنويري حقيقي يدفع ذلك الإنسان إلى تحقيق ذاته والتأكيد على إمكانياته العقلية ونضوج وعيه، حتى وإن كانت ترفع شعارات التنوير والوعي وتدعم بعض الجهات والأشخاص الذين يتحدثون باسم ذلك الوعي.
وكل ذلك لا يخرج عن سياق الترويج والتضليل السياسي الكاذب. ونجد أن حديث ورسائل البعض المنفرين عن الوعي بهدى الله وقيم ومشروع تنوير المسيرة القرآنية، لا يختلف عن حديث أمريكا و"إسرائيل" عن الديمقراطية التي هي بالنسبة لهما تعيش أزهى عصورها في ظل حكمهما البغيض وسيطرتهما الإجرامية. ومن هنا، من هذا الباب التوافقي القذر، ينشأ التحالف الوجودي ما بين الأنظمة الاستبدادية وتيارات الوصاية الأصولية والسياسية التي تبحث عن دكان بدون خلو قدم في سوق التبعية والارتهان.

أترك تعليقاً

التعليقات