عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في ظل حصار خانق مستمر لأكثر من عقد، ووسط أتون حرب مدمرة خاضتها القوات المسلحة اليمنية ضد ما يُسمى "التحالف العربي"، برز اليمن كدرع صلبة، لم يتراجع يوماً عن مواقفه الوطنية والإنسانية. مع اجتياح الاحتلال "الإسرائيلي" الوحشي لغزة، وقف اليمن شامخاً في طليعة الداعمين لغزة، معلناً انطلاق جبهة الإسناد اليمنية تحت عنوان "الجهاد المقدس والفتح الموعود" كعنوان صمود وتحدٍّ، رافضاً كل أشكال التهديد والوعيد.
على مدى 21 شهراً من الاشتباك في هذه الجبهة، ظل اليمن صامداً متماسكاً، محطماً حسابات الانكسار، مؤمناً بأن دعم المقاومة الفلسطينية خط أحمر، لا يمكن التنازل عنه مهما توالت التحديات. وفي رد فعل استراتيجي على المجازر الوحشية التي ارتكبها الكيان الصهيوني بحق المدنيين والنازحين في غزة، أطلقت القوات المسلحة اليمنية جبهة الإسناد اليمنية، لتكون الصوت العسكري والميداني لنصرة الشعب الفلسطيني. ومنذ أكتوبر 2023، شهد البحر الأحمر تصعيداً غير مسبوق، حيث نفذت القوات اليمنية سلسلة من الهجمات الدقيقة بطائرات مسيّرة وصواريخ استهدفت الكيان الصهيوني مباشرة، بالإضافة إلى استهداف السفن التي تدعم الاحتلال الصهيوني، مؤكدين بذلك أن اليمن ما زال قلب المقاومة النابض، ولم يبدل أو يغير مواقفه، رغم كل الضغوط والتحالفات التي شُكّلت ضده، والتي لم تستطع أن تسكر إرادة اليمن في مواجهة الغطرسة الصهيونية الأمريكية.
في هذا السياق، تواصل الجبهة اليمنية لعب دورها الحاسم كخط إسناد استراتيجي ثابت لا يتزحزح في دعم المقاومة الفلسطينية داخل القطاع. فقد أكدت قيادة صنعاء أن جبهة الإسناد اليمنية لغزة لن تتوقف أو تتراجع إلا بإيقاف الكيان الصهيوني عدوانه الوحشي المستمر على القطاع، ما يضع اليمن في قلب المعادلة الإقليمية كحاملٍ لراية المساندة الفاعلة والمباشرة.

فشل الحسابات الصهيونية
منذ بزوغ جبهة الإسناد اليمنية كقوة داعمة للمقاومة الفلسطينية، وجد الكيان الصهيوني نفسه أمام تحدٍّ غير متوقع، رافقه تصعيد عسكري مباشر استهدف اليمن أكثر من مرة. شرع الاحتلال في شن غارات مكثفة على منشآت مدنية حيوية، شملت مطارات استراتيجية ومحطات طاقة ومصانع حيوية، إضافة إلى موانئ بحرية، كانت جزءاً من محاولات كسر إرادة صنعاء وإرغامها على التراجع عن استهداف السفن "الإسرائيلية" في البحر الأحمر والعمق الصهيوني. رغم كل هذه المحاولات، لم تنجح الضربات المتتالية في ثني اليمن عن واجبه الوطني، بل على العكس، تصاعدت العمليات اليمنية الصاروخية والمسيّرة، مستهدفة العمق "الإسرائيلي" من حيفا إلى أم الرشراش.
ونتيجة لذلك فجرت جبهة الإسناد اليمنية خيبة أمل كبرى في حسابات الاحتلال "الإسرائيلي"، الذي عجز عن اختراق صلابة الموقف اليمني، فانكشفت هناته الأمنية والاستخباراتية. واصل اليمن صموده وأسقط كل محاولات الاحتلال لكسر روحه القتالية، مبرهناً أن الصمود والإرادة القوية قادران على قلب موازين الصراع، ليصبح اليمن قوة ردع إقليمية حقيقية لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها في مواجهة العدوان الصهيوني. هذا المشهد يؤكد أن رد اليمن لم يكن رد فعل عابراً، بل خطة استراتيجية متكاملة صنعت من خلال جبهة الإسناد اليمنية مفاجأة عسكرية وسياسية غير مسبوقة في المنطقة.

قراءة في قوة الإسناد اليمنية.. التأثيرات العسكرية والسياسية والاقتصادية 
بلغت العمليات اليمنية مستويات متقدمة جداً وصادمة للأعداء، سواء من حيث المديات أو الشدة أو الكثافة النارية. وقد حملت هذه العمليات رسالة واضحة وموقفاً صلباً، حيث استهدف اليمن عمق كيان العدو "الإسرائيلي" بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة والمجنحة، ومؤخراً بالصواريخ فرط الصوتية. جميع هذه الهجمات طاولت أهدافاً حساسة داخل فلسطين المحتلة، بدءاً من أم الرشراش جنوباً، وصولاً إلى عسقلان ويافا وحيفا، وسواها من المدن المحتلة. وعلى صعيد آخر، شكّلت المواجهة في البحر الأحمر شكلاً جديداً من أشكال الاشتباك، حيث استُخدم الطيران المسيّر بشكل واسع، وهو تكتيك لم يكن جنود البحرية الأمريكية معتادين عليه أو متدرّبين لمواجهته في حروبهم السابقة. وقد نتج عن ذلك تكاليف مالية ضخمة، حيث تكبّدت السفن الحربية والطائرات التابعة للمجموعة الأمريكية خسائر كبيرة.
أما على المستوى السياسي والعسكري، فقد برزت أهمية جبهة الإسناد اليمنية من خلال استهدافاتها الحساسة، التي مثّلت عامل ردع فعّالاً للمستوطنين وقيادتي العدو السياسية والعسكرية. وقد كشفت هذه الضربات فشل منظومات الدفاع الجوي "الإسرائيلية"، بما في ذلك القبة الحديدية، الأمر الذي زعزع ثقة الداخل "الإسرائيلي" بأجهزته الأمنية والاستخباراتية. في الوقت نفسه فإن التأثيرات الاقتصادية كانت عميقة؛ إذ تسبّبت العمليات اليمنية بانخفاض الإيرادات "الإسرائيلية" بنسبة 80%، وتراجع الإمدادات الغذائية بنسبة 60%، إلى جانب فقدان "إسرائيل" علاقاتها التجارية مع 14 دولة.
كما شهدت الأسواق المحلية ارتفاعاً في أسعار السلع بنسبة 50%، وانخفضت الاستثمارات الخارجية بنسبة 70%. وفي قطاع النقل والتأمين البحري واللوجستي، وصلت تكاليف التأمين إلى 50 ألف دولار للحاوية الواحدة، ما أدى إلى خسائر فادحة للشركات "الإسرائيلية" العاملة في هذا المجال. ولم تقف التداعيات عند هذا الحد؛ إذ أدّت هذه التطورات إلى انهيار ملحوظ في "الأمن القومي الإسرائيلي"؛ فقد تراجع تصدير الغاز "الإسرائيلي" في الأسواق الدولية بنسبة 70%، وانخفض حجم التبادل التجاري إلى مستويات وصلت إلى 50%. وبذلك، أسقطت جبهة الإسناد اليمنية الهيمنة التي لطالما فرضتها قوى الاستكبار العالمي، وكشفت هشاشة الدفاعات والاستخبارات "الإسرائيلية" بشكل غير مسبوق.

مرحلة التورط العسكري الأمريكي في اليمن
في هذه المرحلة، دخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر لدعم كيان الاحتلال الصهيوني، في تصعيد عسكري بدا وكأنه رد استعراضي على ضربات القوات المسلحة اليمنية، حيث شنت الولايات المتحدة سلسلة من الضربات على أهداف في اليمن. لكن بعد أسابيع من القصف المكثف، بدأت الحقائق تظهر: العملية لم تحقق أهدافها المعلنة، بل فتحت الباب لأسئلة محرجة داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية حول الفاعلية والجدوى، وتكلفة الاستنزاف في صراع يبدو بعيداً عن الحسم. وبالرغم من استخدام واشنطن لترسانة من أكثر الأسلحة تقدماً -مثل صواريخ "توماهوك" وقنابل (AGM-158) الشبحية- إلا أن مسؤولين في البنتاغون أقرّوا بفشل كبير في تدمير ترسانة القوات المسلحة اليمنية من الصواريخ والطائرات المسيّرة. وفي السياق نفسه، كشفت مصادر في الكونغرس الأمريكي أن البنتاغون أبلغ الأعضاء بأن "النجاحات كانت محدودة"، ما يعكس وجود فجوة بين القوة العسكرية والنتائج الميدانية.
منذ بداية العمليات، أنفقت واشنطن ما يزيد على 200 مليون دولار في الأسابيع الثلاثة الأولى فقط، فيما تجاوزت التكاليف الكلية -بما فيها العمليات والدعم اللوجستي- مليار دولار. أثارت هذه التكلفة مخاوف حقيقية داخل المؤسسة الدفاعية، وخاصة أن المخزون العسكري تراجع بوتيرة أثارت القلق في ظل التوتر المتصاعد مع الصين في المحيطين الهندي والهادئ. اتسمت مرحلة العدوان الأمريكي على اليمن بفشل استخباراتي. وهنا برز اعتراف المراقبين الدوليين والمحللين العسكريين بأن لدى القوات المسلحة اليمنية قدرة على المناورة، وإخفاء ترسانتها العسكرية، وربما التمويه بأساليب لا تزال تقاوم التكنولوجيا الأمريكية. ونتيجة لذلك، تم التوصل إلى وقف إطلاق النار.

سقوط الهيمنة الأمريكية
مُنيت الولايات المتحدة بفشلٍ استراتيجي في اليمن، فشل أكّدته تقارير عدة، أبرزها تقرير "ناشيونال إنترست"، الذي كشف عن خسائر تجاوزت خمسة مليارات دولار في حرب لم تُحقق استعادة الردع ولا إضعاف قدرات صنعاء. فمع غياب استراتيجية واضحة، وأهداف محددة، وإنجازات ملموسة، تحوّل العدوان إلى مأزق أضعف واشنطن سياسياً وعسكرياً. بدلاً من كسر إرادة اليمن، ولّدت الحرب معادلة ردع جديدة. فالقوات المسلحة اليمنية لم تكتفِ بالدفاع، بل انتقلت للهجوم، مستهدفة السفن والمصالح الأمريكية و"الإسرائيلية" في البحر الأحمر، وضاربةً عمق الكيان الصهيوني بالصواريخ والمسيّرات، لتؤكد أن التفوق التكنولوجي الأمريكي عاجز أمام إرادة وتكتيك صنعاء.
هذا التورط الأمريكي قيّد قدرات واشنطن، خاصة في وقتٍ تسعى فيه لتعزيز وجودها في المحيط الهادئ لمواجهة الصين. والأسوأ أن الحرب كشفت هشاشة العقيدة العسكرية الأمريكية؛ إذ وجد البنتاغون نفسه أمام خصمٍ مرن يسقط الطائرات المسيّرة المتطورة واحدة تلو الأخرى، في ضربة قاسية لهيبة التكنولوجيا العسكرية التي طالما روّجت واشنطن لتفوقها. هذا الانتصار لم يكن تكتيكياً فحسب، بل رمزياً واستراتيجياً، إذ عزّز إرادة الصمود لدى الشعوب الحرة، ووجّه رسالة قوية أن أي مغامرة عدوانية ستواجه بردود قاسية وغير متوقعة. وهنا يمكن القول بأن اليمن تحوّل إلى مختبر لفشل المشروع الأمريكي، ومنارة تلهم الشعوب التوّاقة للتحرر. ومع كل طائرة تُسقط، وكل صاروخ ينطلق، تتجذر الحقيقة: زمن الهيمنة انتهى.
ختاماً، يمكن القول بأن الهيمنة الأمريكية والصهيونية وعدت بكسر إرادة اليمن خلال أسابيع. بعد 21 شهراً، ما كُسر هو صورة التفوق العسكري، وصورة واشنطن والكيان على شاشات الأخبار.

أترك تعليقاً

التعليقات