علي القرشي

علي القرشي / لا ميديا -
يأتي البيان الختامي للمؤتمر القومي العربي في ظرف إقليمي ودولي بالغ التعقيد، إذ تتقاطع الأزمات السياسية والعسكرية في المنطقة مع تحولات كبرى في موازين القوى العالمية. وقد حمل البيان في طيّاته لهجة جديدة تعبّر عن وعي متصاعد في الأوساط القومية بأهمية بلورة استراتيجية عربية موحدة لمواجهة التهديدات «الإسرائيلية» والغربية، خاصة بعد التطورات المتسارعة في فلسطين واليمن والبحر الأحمر.
أولاً: التحول في الخطاب القومي نحو الفعل والمواجهة
تميز البيان الختامي للمؤتمر بنبرة عملية تتجاوز البيانات التضامنية التقليدية، نحو دعوة واضحة لوضع استراتيجية مواجهة شاملة. فالإشارة إلى المخاطر «الإسرائيلية» والغربية تعكس إدراكاً متزايداً لطبيعة التحالفات التي تستهدف الأمن القومي العربي، من خلال أدوات عسكرية واقتصادية وإعلامية، ومن خلال توظيف الصراعات الداخلية لإضعاف العالم العربي.
هذه اللغة الجديدة تعبّر عن عودة الوعي القومي بمفهوم الأمن العربي المشترك، بعد سنوات من التراجع والتجزئة، وتشير إلى إدراك أن التحدي الصهيوني لم يعد مقتصراً على فلسطين، بل يمتد إلى كل ما يمسّ الإرادة والسيادة العربية.

ثانياً: اليمن كنموذج للمقاومة الفاعلة
أبرز ما في البيان هو الإشادة الواضحة بموقف اليمن في مناصرة غزة ومواجهة «إسرائيل» والولايات المتحدة، سواء داخل فلسطين أو في البحر الأحمر.
فقد جاء في البيان أن «اليمن صنع وكتب تاريخاً جديداً في مسار المواجهة مع الكيان الصهيوني وأمريكا»، وهي عبارة تحمل دلالات عميقة.
فمن منظور استراتيجي، أعاد اليمن تعريف مفهوم «قوة الدولة»، ليس باعتبارها القدرة على التفوق العسكري التقليدي، بل بمدى استعدادها لتحمل كلفة المواجهة دفاعاً عن القيم والسيادة والكرامة.
أما القول بأن «البحر الأحمر عاد بفضل المدافعة اليمنية بحراً عربياً تمخر فيه السفن بإذن عربي يصدر من صنعاء»، فيعكس قراءة رمزية وسياسية عميقة؛ فهو يؤكد أن اليمن استطاع، من خلال تحركاته البحرية والعسكرية، أن يفرض معادلة ردع جديدة في هذا الممر الدولي الحيوي، الذي ظل لعقود تحت الهيمنة الغربية و»الإسرائيلية» غير المباشرة.

ثالثاً: فلسطين في قلب المشروع القومي الجديد
جاءت تصريحات أمين عام المؤتمر، حمدين صباحي، لتؤكد أن بوصلة المشروع القومي لا تزال ثابتة نحو تحرير فلسطين واستعادة القرار العربي المستقل.
وقال: «أمتنا العربية لن تنهض إلا بالاستقلال واسترداد فلسطين المغتصبة من الصهاينة». وهذا يربط بوضوح بين النهضة والتحرر، ويعيد إحياء المفهوم التاريخي للوحدة القائمة على مشروع مقاوم.
كما أن إشارته إلى أن «طوفان الأقصى زلزل الكيان الصهيوني في أساسه وفي نظرية أمنه»، تعكس قراءة استراتيجية ترى في معركة غزة نقطة تحول في الوعي العربي والعالمي، ومرحلة جديدة في تآكل الردع «الإسرائيلي» الذي شكّل لعقود أساساً لتوازن القوى في المنطقة.

رابعاً: دلالات البيان في السياق العربي والدولي
لا يمكن قراءة البيان بمعزل عن تراجع الهيمنة الغربية في المنطقة، وصعود قوى جديدة كروسيا والصين، فضلاً عن تصاعد أدوار فاعلين إقليميين من خارج المنظومة التقليدية.
في هذا الإطار، يمكن اعتبار المؤتمر القومي العربي -من خلال بيانه- بمثابة نداء لإعادة صياغة النظام العربي على أسس استقلالية ومقاومة، بدل التبعية للسياسات الغربية.
كما أن الإشادة بالنموذج اليمني تحمل رسالة ضمنية إلى بقية الدول العربية بأن التحرر لا يُمنح بل يُنتزع، وأن السيادة لا تُصان إلا بالفعل لا بالخطاب.

خامساً: نحو مشروع عربي جامع
من خلال تحليل البيان، يمكن القول بأن المؤتمر القومي العربي يسعى لإعادة بناء مشروع قومي عربي جديد، جوهره:
- مواجهة التطبيع والتحالفات الأمنية مع «إسرائيل».
- دعم حركات المقاومة في فلسطين وسائر الدول العربية.
- استعادة البحر الأحمر كمجال حيوي عربي.
- تعزيز الاستقلال الاقتصادي والسياسي عن القوى الغربية.
بهذا، يصبح المؤتمر ليس مجرد منتدى فكري، بل نواة لتشكيل رؤية استراتيجية عربية متكاملة تستند إلى الإرادة الشعبية والمقاومة، بعيداً عن الانقسامات الرسمية.
الخلاصة: إن البيان الختامي للمؤتمر القومي العربي يعكس لحظة وعي متجددة في الفكر السياسي العربي، لحظة ترى أن التحرر الحقيقي يبدأ من مواجهة «إسرائيل» وأدوات الهيمنة الغربية، وأن اليمن وفلسطين تمثلان رمزين لتحول تاريخي في ميزان القوة والإرادة.
وفي ظل ما يشهده العالم من إعادة تشكيل للمراكز والنفوذ، يبدو أن هذا الخطاب القومي المقاوم يعيد للأمة صوتها، ويمنحها أفقاً جديداً لاستعادة مكانتها ودورها في التاريخ.

أترك تعليقاً

التعليقات