عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في المشهد الأمني العالمي الراهن، يُعتبر الأمن القومي حجر الزاوية لاستقرار الدول وضمان حماية مصالحها الحيوية، وغيابه يُمثل تهديداً مباشراً لقدرتها على الصمود وتحقيق السيادة والتنمية المستدامة. في هذا السياق، البُعد الأمني لحرب أوكرانيا 2022 يُشكل نقطة محورية تتعلق بالأمن والقضايا الأمنية، حيث يحمل هذا البُعد أهمية كبيرة للدول وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي ككتلة سياسية وعسكرية فاعلة. أدَّت حرب أوكرانيا وتداعياتها متعددة الأبعاد إلى دفع الدول الأوروبية نحو تغيير في النهج العسكري وتعزيز قدراتهم الدفاعية. فعندما يوجد فهم مشترك للتهديد، يصبح مفهوم الدفاع الأوروبي واضحًا وفعالًا، ويبدو أن أوروبا قد توصلت الآن إلى فهم مشترك للتهديد وتسعى لتعزيز قدراتها العسكرية.
في هذا السياق، يبدو أن ألمانيا أكثر من غيرها من الدول الأوروبية تسعى لتغيير نهجها العسكري المحافظ، وتسعى لتلعب دورًا عسكريًا أكثر فاعلية على الصعيد الدولي. حيث ترى ألمانيا اليوم أن العالم غير مستقر ولا يمكن التنبؤ به، مما يُبرز ضرورة وجود جيش قوي. لذلك، فإن قرار ألمانيا زيادة ميزانيتها العسكرية يُعتبر احتمالًا لتغيير قواعد اللعبة في تطوير قدرات التعاون العسكري الأوروبي ويفتح الطريق لإعداد وتخطيط دفاع مشترك داخل الاتحاد الأوروبي. في الواقع، يمكن لألمانيا أن تغيّر توازن القوة العسكرية في أوروبا بشكل ملحوظ. من المسائل المهمة التي تواجه الاتحاد الأوروبي، والتي تتعلق بتوسيع الاتحاد وسياسة الجوار والسياسة الخارجية والأمنية المشتركة، هي سياسة الاتحاد تجاه الدول والمناطق المجاورة له. من أهم هذه الدول التي أصبحت تحد الاتحاد بعد توسع الاتحاد الأوروبي في عام 2004 وانضمام عشرة أعضاء جدد هي أوكرانيا. منذ ذلك الحين، أصبحت أوكرانيا باعتبارها أكبر جاره للاتحاد الأوروبي ذات أهمية استراتيجية في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.
جمهورية أوكرانيا هي إحدى الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق وتقع في أوروبا الشرقية، وتُعد من الناحية الجغرافية السياسية والاقتصادية أهم دولة في أوروبا الشرقية. على مدى قرنين من الزمن، لعبت أوكرانيا دور الحاجز بين أوروبا وروسيا، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي تُعتبر الحدود بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. بسبب هذا الموقع المميز، كانت أوكرانيا منذ فترة طويلة ساحة تنافس وصراع بين مجموعات وقوى مختلفة.

تفاقم الشعور بعدم الأمان في أوروبا نتيجة التهديد الروسي
مع اندلاع حرب أوكرانيا في 2022، شهد الأمن الأوروبي تغيرات جذرية خلال فترة زمنية قصيرة، إذ أمست أوروبا رقعة شطرنج متحولة تترنح بين موجات التهديد وتغيّر التوازنات. حرب أوكرانيا أشعلت شرارة لم تخمد في البناء الأمني الأوروبي، وسرعان ما ظهرت نتائجها في تبدّل العقيدة الدفاعية وظهور إدراك جديد لمعنى "الخطر الوجودي" في زمن متعدد التهديدات. اليوم، تقف أوروبا عند مفترق طرق تاريخي. الاستجابات السياسية لم تعد تقتصر على بيانات القلق والدعم الرمزي، بل تحوّلت إلى قرارات استراتيجية من العيار الثقيل: ألمانيا عدّلت الدستور ورفعت ميزانيتها الدفاعية لتضع نفسها في صدارة معسكر الاستعداد والردع. لم تَعُد مفاهيم الإنفاق العسكري وزيادة التسلح أعباءً سياسية، بل أضحت ركيزة البقاء وسط عاصفة لا أحد يعرف متى تخمد، ولا كيف تتسع.
انضمام السويد وفنلندا لـ"الناتو" بجرة قلم وبسرعة غير معهودة طوى عقوداً من سياسة الحياد، متيحاً لـ"الناتو" نفوذاً غير مسبوق في الشمال الأوروبي، ومفاقماً قلق موسكو ويدفعها لمزيد من التحركات المفاجئة. أما أوروبا الشرقية فقد أصبحت -أمنياً- النقطة الساخنة لاختبار صبر الغرب وقدرته على الصمود والتكيف. إننا اليوم، كمحللين ومستشرفين، وفي ظل متابعة دقيقة لمستجدات حرب أوكرانيا، نرصد مؤشرات متزايدة على أن الأمن الأوروبي دخل مرحلة "زمن القلق المستدام". فالأحداث الأخيرة أذكت سباق تسلح غير رسمي، وأدخلت مفهوم "الدفاع المشترك" من حيز الخطابة إلى ميدان التطبيق العملي: تدريبات عسكرية مشتركة متصاعدة، تطوير منظومات ردع استراتيجية، وإنشاء صناديق طوارئ دفاعية مستدامة.

"الناتو" ومخاوف روسيا.. ديناميكيات المواجهة
لم تعد مخاوف روسيا من حلف "الناتو" مسألة سياسية عابرة، بل تحوّلت إلى معضلة أمنية وجودية، تدفع الكرملين إلى إعادة رسم استراتيجيات الردع والدفاع في محيطه الحيوي. فمنذ احتجاجات كييف عام 2014، حين انخرطت الولايات المتحدة بجرأة غير مسبوقة في دعم الحراك المناهض لروسيا، تجلى بوضوح أن واشنطن تسعى إلى إعادة هندسة الفضاء الأمني شرق أوروبا بما يتجاوز مجرد دعم ديمقراطي مزعوم. تسريبات مكالمات كبار مسؤولي الخارجية الأمريكية آنذاك كشفت حجم التدخل المباشر في اختيار النخب السياسية الأوكرانية، وهو ما اعتبرته موسكو إعلانًا صريحًا لحرب غير تقليدية تستهدف تطويقها استراتيجيًا.
توسّع "الناتو" شرقاً لم يعد -من منظور روسيا- مجرد تحالف دفاعي، بل أداة هجومية لتقليص عمقها الاستراتيجي وتهديد بنيتها الأمنية. انضمام دول البلقان وأوروبا الشرقية إلى الحلف، والترويج الحثيث لضم أوكرانيا وجورجيا، يُعيد إلى الأذهان لدى موسكو سيناريوهات الحرب الباردة؛ لكن في بيئة دولية أكثر انعداماً للتوازن. القرب المتزايد لقوات "الناتو" من البحر الأسود، القلب الجيوسياسي لروسيا، يمثل بالنسبة للكرملين خطاً أحمر قد يستدعي استخدام كافة أدوات القوة الصلبة والناعمة، من تعبئة الجاليات الروسية شرق أوكرانيا إلى توظيف ورقة الطاقة كسلاح اقتصادي ردعي.
في هذه المعادلة المعقدة، لا يبدو أن واشنطن تسعى فعلاً إلى تسوية الأزمة، بقدر ما توظفها لإعادة صياغة معادلات النفوذ الإقليمي. أما موسكو فترى في هذه التحركات تهديداً مباشراً لعمقها الأمني، يستوجب مزيجاً من الردع العسكري والحرب الهجينة وإعادة تموضع استراتيجي على حدودها الغربية. ما يلوح في الأفق ليس مجرد أزمة إقليمية، بل مرحلة جديدة من "حرب باردة هجينة"، إذ تتقاطع أدوات القوة العسكرية، الاقتصادية، والنفسية، في معركة مفتوحة على استقرار شرق أوروبا.

تحوّل الجغرافيا الأمنية الأوروبية ومأزق ميزان القوى
تشير المعطيات الميدانية والتحليلات الاستخباراتية إلى أنّ الحرب الأوكرانية تحوّلت إلى مسرح صدام استراتيجي بين القوى الكبرى، يعيد رسم خرائط النفوذ العسكري والأمني في أوروبا الشرقية وحوض البحر الأسود. أوكرانيا، الدولة ذات البنية المؤسسية المتصدعة حالياً والانقسامات العرقية والمناطقية، باتت تمثل نقطة ارتكاز في مواجهة مفتوحة بين روسيا، الساعية لحماية مجالها الحيوي، وحلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي اللذين يسعيان لاختراق العمق الجيوسياسي الروسي.
وفق تقديرات الأمن القومي الروسي، يشكل انضمام كييف إلى "الناتو" تهديداً وجودياً يتيح للغرب نشر بنى تحتية عسكرية واستخباراتية متقدمة على تخوم المجال الروسي، ويقوّض أي إمكانية لإحياء محور قادر على موازنة النفوذ الأطلسي. في المقابل، ترى واشنطن وبروكسل أنّ أوكرانيا تمثل ركيزة استراتيجية لاحتواء موسكو وتوسيع مظلة الردع في شرق أوروبا.
التدخل الغربي في الأزمة الأوكرانية تجلى بوضوح عبر ثلاث مستويات رئيسية متكاملة:
أولاً: تم تنفيذ عمليات تأثير استراتيجي شملت دعماً سياسياً واقتصادياً مكثفاً للأطراف الأوكرانية الموالية للغرب، بهدف تعزيز نفوذهم وتثبيت مواقعهم في مواجهة الضغوط الروسية.
ثانياً: شهدت البنية الدفاعية الأوكرانية إعادة هيكلة شاملة، من خلال تقديم مساعدات عسكرية نوعية ساهمت في رفع القدرات القتالية والتقنية للقوات الأوكرانية.
ثالثاً: تمركزت القوات الغربية والاستخباراتية بشكل متقدم في شرق أوروبا وحوض البحر الأسود، حيث جرت عمليات استطلاع دقيقة ونشر قدرات ردع متحركة قادرة على الاستجابة السريعة لأي تهديد محتمل، ما عزز حضور "الناتو" الاستراتيجي في المنطقة، وأعاد تشكيل موازين القوى الأمنية في أوروبا الشرقية.
هذه الديناميكيات أوجدت بيئة أمنية شديدة التقلب، حيث تحوّل البحر الأسود إلى مسرح مواجهة هجينة واختبار لحدود الردع المتبادل.

تقييم أمني لمنطقة شرق أوروبا والبحر الأسود
تعتبر منطقة البحر الأسود والدول المحيطة بها واحدة من أكثر الساحات الإقليمية حساسية في العالم، وتشكل بؤرة أزمات متعددة ذات أبعاد أمنية وسياسية ضاغطة. تشهد المنطقة تغيرات جيوسياسية واقتصادية عميقة، أدت إلى نشوء منظومة أمنية إقليمية هشة تتأرجح بين الولاءات الروسية والغربية، ما يولّد توترات متفاقمة. تتمركز الأزمة الرئيسية حول شعور روسيا بالمهدِّد الوجودي جراء توسع نفوذ "الناتو" شرقاً، وإلحاق دول مثل أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا بالحلف الغربي. وبينما تسعى روسيا إلى ترسيخ نفوذها في أجزاء من منطقة البحر الأسود والقوقاز، من خلال دعم الكيانات الانفصالية في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، إضافة إلى ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، تتجه تلك الدول الغربية نحو الغرب بحزم، ما يزيد تفاقم حالة الاستقطاب، وتحول المنطقة إلى ساحة لصراع نفوذ إقليمي وعالمي.
في هذا السياق يشكل النزاع المستمر بين أرمينيا وأذربيجان حول ناغورنو-قره باغ مثالاً صارخاً لتشابك الأزمات، حيث تدعم روسيا أرمينيا، في حين تلعب تركيا دوراً محورياً في دعم أذربيجان، ما يعزز خطوط التوتر ويحول الصراع إلى عامل إزعاج أمني دائم.
ختاماً: أوكرانيا تمثل القلب النابض لهذه الأزمات، إذ تصل هشاشة مؤسساتها إلى ذروتها مع انقسامات سياسية، واحتجاجات عرقية، ونزاعات عسكرية، في عدة مناطق تتمتع بحكم ذاتي، إضافة إلى الاعتماد الكبير على موسكو في جوانب اقتصادية وحيوية. هذا الواقع يجعلها أكثر عرضة للضغوط والتدخلات.
بناء على ذلك، تبدو المنطقة محكومة بمزيج خطير من هشاشة الأنظمة السياسية، وتحولات النفوذ الدولية، والانقسامات الداخلية، التي تعزز مخاطر نشوب صراعات متجددة. الحلول الأمنية في هذه المنطقة تتطلب استراتيجيات متكاملة تراعي التوازن بين الردع العسكري والجهود السياسية للحوار، بهدف كسر دائرة التوتر وتعزيز الاستقرار الإقليمي. غياب تلك الاستراتيجيات سيبقي المنطقة على شفير أزمات مستمرة تؤثر سلباً في الأمن الدولي.

أترك تعليقاً

التعليقات