قراءة استشرافية في استراتيجيات الرد.. صنعـاء ومسار المرحلة الاستراتيجية المقبلة
- عثمان الحكيمي الجمعة , 5 سـبـتـمـبـر , 2025 الساعة 7:58:13 PM
- 0 تعليقات
عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في أدبيـات الحرب والاستراتيجية، يُميّز الباحثون بين الأخطاء التكتيكية التي يمكن استيعابها أو تجاوزها، وبين الخطايا الاستراتيجية. وما ارتكبه الكيان الصهيوني في صنعاء، عصر الخميس الماضي، لا ينتمي إلى الصنف الأول، بل هو الخطيئة الاستراتيجية بعينها؛ تلك التي لا تُغتفر في ميزان القوى، وتؤسس لمرحلة لا يمكن الرجوع عنها. لم تكن الغارة التي استهدفت رئيس حكومة "التغيير والبناء" في صنعاء، وعدداً من رفاقه الوزراء، مجرد عملية اغتيال غادرة، بل كانت بمثابة إعلان شهادة وفاة مبكرة لأمن "تل أبيب" الهش.
رغم أن العدو يعيش لحظة من الغرور الممزوج باليأس، إلا أنه اختار أن يوجّه ضربته نحو القيادة السياسية، رأس السلطة التنفيذية في صنعاء، ممثلةً برئيس الوزراء الشهيد أحمد الرهوي وكوكبة من وزرائه. لم يكن هذا الاستهداف مجرد فعل عابر، بل محاولة محسوبة لإحداث فراغ قاتل في هرم القيادة، وفتح ثغرة في جدار جبهة الإسناد اليمنية. هكذا أراد الكيان الصهيوني أن يصنع من الدم صدمةً تُربك، وأن يبعث برسالة قاسية إلى اليمن الذي وقف ببسالة داعماً لغزة.
لكن -وهنا جوهر المسألة- هل كان يدرك الكيان الصهيوني أن اليمن ليس جسداً هشّاً يُضرب فينهار؟ أم أنه تجاهل حقيقةً راسخة مفادها أن اليمن يمتلك شبكة مقاومة صلبة، متجذّرة في التاريخ والوجدان الشعبي، قادرة على امتصاص الضربة، بل وتحويلها إلى وقود لمعركة أكبر؟
في المقابل، ومن منطلق النقد الذاتي، هل كانت صنعاء نفسها تتعامل مع التهديد بالجدية الكافية؟ هل أدت الانتصارات المتتالية إلى حالة من الثقة المفرطة التي خلقت ثغرات أمنية؟ وإلى أي مدى طُبّقت بروتوكولات حماية الشخصيات بصرامة؟ أم أن طول أمد الحرب أدى إلى نوع من التراخي الروتيني؟ وهل تم الاستثمار بشكل كافٍ في بناء قدرات استخباراتية مضادة قادرة على العمل الاستباقي قبل وقوع الخطر؟ نعم، إنها أسئلة مزدوجة، فبقدر ما تكشف عن سوء تقدير محتمل لدى العدو، فإنها تسلط الضوء على تحديات داخلية لا يمكن تجاهلها.
ولكي نقرأ هذا الحدث بعمق، لا يكفي أن نردده بلهجة إعلامية حماسية. المطلوب أن نتعامل معه بوعي استراتيجي، وأن نطرح أسئلة جديّة: هل نحن أمام تحوّل في قواعد الاشتباك؟ وهل تعكس العملية مستوىً متقدماً من القدرة الاستخباراتية والعملياتية لدى العدو يفرض علينا إعادة تقييم شاملة؟ هذه ليست مجرد "خطوة ارتجالية"، بل علامة فارقة في مسار الصراع. وهنا تكمن الحاجة إلى قراءة معمّقة للتداعيات، وتقييم واقعي للتحديات، واستشراف للخيارات المستقبلية التي يمكن أن تفتح أمام صنعاء مسارات جديدة في المواجهة.
الاغتيال كأداة لفرض واقع
لفهم أبعاد هذه الجريمة الصهيونية وتحليل دوافعها، يتطلب الأمر تجاوز التوصيفات التبسيطية التي تعتبرها مجرد فعل قوة أو دليل عجز مطلق. فالقراءة الاستراتيجية تضع العملية في سياق أكثر تركيباً، إذ يتقاطع ما هو عسكري بما هو نفسي وسياسي. يمكن القول إن لجوء "إسرائيل" إلى هذا الخيار يعكس إدراكها لعدة حقائق ميدانية، أبرزها تآكل فاعلية منظوماتها الدفاعية أمام التهديدات الصاروخية القادمة من اليمن. في هذا الإطار، يصبح "الاغتيال المركّز" خياراً تكتيكياً يهدف إلى تحقيق أهداف محددة بأقل تكلفة ممكنة، وهذا صلب العقيدة الأمنية الصهيونية.
من منظور عملياتي: يُعتبر الانتقال من استهداف البنية التحتية إلى استهداف القادة السياسيين تحولاً نوعياً في إدارة الصراع. هذا التكتيك أيضاً جزء أصيل من "العقيدة الأمنية الإسرائيلية"، يُستخدم لممارسة أقصى درجات الضغط النفسي على الخصم. لكن فاعلية هذا الأسلوب تعتمد بشكل كبير على طبيعة البيئة المستهدفة. وهنا يبرز التساؤل حول مدى دقة التقدير "الإسرائيلي"؛ فهل تم تطبيق هذه العقيدة على اليمن دون مراعاة لخصوصيته؟ الحقيقة أن البيئة اليمنية، التي تشكلت عبر سنوات من الصراع، قد طورت آليات مقاومة اجتماعية ونفسية تجعل من تكتيك "الصدمة والرعب" أقل تأثيراً، بل قد يؤدي أحياناً إلى نتائج عكسية عبر تعزيز الصمود ورفع قيمة الشهادة كرمز للتضحية.
على الصعيد الداخلي "الإسرائيلي": لا يمكن إغفال البعد النفسي - الإعلامي للعملية. ففي ظل تزايد القلق العام وشعور المستوطنين بانعدام الأمن، تحتاج القيادة السياسية والعسكرية في الكيان إلى تقديم صورة "نصر" ملموسة. تأتي "الضربات النوعية" كأداة دعائية فعالة موجهة للداخل، تهدف إلى ترميم صورة الردع المتآكلة، والإيحاء بأن القيادة لا تزال تسيطر على زمام المبادرة. وبهذا، تكون العملية ذات وظيفة مزدوجة: ضربة موجهة للخصم في الخارج، ورسالة طمأنة موجهة للجمهور في الداخل.
متطلبات المرحلة القادمة
لا يمكن لأي تحليل استراتيجي أن يكتسب قدراً من المصداقية ما لم يبدأ من مواجهة الحقيقة المجرّدة. والحقيقة في هذا السياق أنّ الضربة التي استهدفت هرم السلطة التنفيذية في صنعاء لم تكن حادثة عابرة، بل لحظة فارقة ذات أثر مركّب وعميق. فهي ليست مجرد خسارة سياسية أو إدارية قابلة للتعويض بقرار تكليف فحسب، وإنما صدمة متعدّدة المستويات يمكن أن تهزّ البنية الأمنية والمعنوية للدولة على نحو مباشر إن لم يتم معالجة الأسباب. فعلى المستوى النفسي، صُمّم الاستهداف لكسر حاجز الهيبة وزرع قناعة عامة بأن لا مكان آمناً ولا شخصية محصّنة، وهذا ما يراهن عليه قادة الكيان في خطاباتهم، وهو ما يضاعف الضغط على دوائر القرار ويضعها في اختبار قاسٍ أمام الرأي العام. وعلى المستوى التنظيمي، هدفت العملية إلى إنتاج فراغ وظيفي وإرباك إداري ينعكس على انتظام آليات العمل الحكومي. أمّا على المستوى الاستراتيجي، فقد شكّلت محاولة لاختراق عميق يمنح العدو تفوّقاً معلوماتياً ومعنوياً ولو بصفة مؤقتة، ويفرض معادلة جديدة على مسرح الصراع.
إن القفز فوق هذه الحقائق أو اختزالها في تحليلات تعبوية سطحية لا يعدّ فقط خطأً منهجياً، بل مغامرة مدمّرة. فالاعتراف الواضح بحجم الخسارة لا يعني الانكسار، بل يشكّل الشرط الأول لبناء مقاربة رشيدة تقوم على تشخيص دقيق لجذور الثغرات. وكما أنّ التشخيص الطبي هو المدخل لأي علاج ناجع، فإنّ تفكيك وتحليل أبعاد وتقديم تصورات كاملة لما حدث مؤخراً يمثّل الركيزة الأولى لصياغة استراتيجية مواجهة فعّالة. وعلى أساس هذا التشخيص، لا بد أن تتحدد استحقاقات المرحلة المقبلة، وهي أبعد ما تكون عن ردّ الفعل الانفعالي أو المؤقت. إنّها مرحلة إعادة تأسيس شاملة، تتطلب تعزيز البنية الأمنية، تطوير الإجراءات المؤسسية، وتحصين الوعي الجمعي ضد الحرب النفسية. ذلك أنّ المعركة دخلت أطوارها الأكثر تعقيداً ودهاءً وخبثاً من قبل العدو، يفرض علينا الانتقال من إدارة الأزمة إلى هندسة الرد، ومن منطق الاستجابة إلى منطق المبادرة.
إن المستقبل، في جوهره، لا يُبنى على إنكار الجراح، ولا على تجاوزها بخطابات وتحليلات عاطفية، بل على تحويلها إلى مخزون خبرة ووعي، تُستخلص منه دروس عميقة تُرسَّخ في ذاكرة الأمة وتُترجم إلى منظومة دفاع أشدّ صلابة وقدرة على مواجهة التحديات المقبلة.
الرد لن يكون تقليدياً بل استراتيجياً وموجعاً
ما حدث في صنعاء ليس مجرد عدوان، بل يمثل نقطة تحول نوعية في وعي الصراع، وهو واقع يجب إدراكه والاستعداد لمقتضياته بجدية. لقد فتح الكيان الصهيوني على نفسه باباً ظن أنه يمتلك مفتاحه؛ لكنه سيكتشف سريعاً أنه يقوده إلى فراغ استراتيجي بلا قرار. المعادلة الأمنية للردع، التي كانت حتى الأمس القريب أداة ضغط محسوبة لوقف جرائم العدو في غزة، تتحول اليوم بقوة إلى عقيدة ثأر مفتوحة، لا يحكمها توازن القوى التقليدي، بل توازن الدم.
الرد القادم على هذه الجريمة لا يجب أن يكون مجرد فعل انتقامي عابر، بل عملية مدروسة تهدف إلى صياغة مفهوم جديد للهزيمة في العقل الصهيوني. وقد يتخذ شكل صمت مطبق في أعماق البحار يسبق العاصفة، أو وميضاً خاطفاً في قلب منشأة حيوية، أو كشفاً عن قدرة تكنولوجية كانت طي الكتمان، مهمتها إذلال الكبرياء العسكرية للعدو في المرحلة القادمة.
لقد بعثت صنعاء برسالتها الأولى، ليس بالتهديد المباشر، بل بالهدوء القاتل. فسرعة إعادة ترتيب المشهد الداخلي كانت رسالة أبلغ من أي صاروخ، وكأنها تقول ببرود: "لقد لعبتم ورقتكم الأقوى، والآن حان دورنا". إن اغتيال القادة لا يجب أن يُنظر إليه كعلامة قوة للعدو. في الوقت نفسه لا يجب النظر إليه كإعلان إفلاس استراتيجي واعتراف بأن قوة الكيان لم تعد سوى صنم أجوف. هم راهنوا على الصدمة، وبالمقابل يجب إطلاق عقيدة ردع جديدة لا تعترف بالخطوط الحمراء. الرد القادم لا يجب أن يكون كاحتمال، بل كحتمية، ويكون بحجم الجريمة التي ارتكبها العدو.
في الختام، من وجهة نظري لم يعد السؤال لدى العدو هو: ماذا سيضرب اليمن؟ بل يجب أن يكون: أي مفهوم أساسي في عقيدته الأمنية سينهار بعد ذلك؟ الرد لن يكون مجرد حدث يُرى وينتهي، بل واقع جديد يُعاش؛ واقع تتغير فيه قواعد الاشتباك، وتصبح فيه الأشياء الصلبة هشة، والأماكن التي ظُنّت آمنة مجرد نقاط في ذاكرة الماضي. هذا الواقع يجب أن يكون الأساس الذي تُبنى عليه استراتيجية المرحلة القادمة في الصراع مع الكيان الصهيوني.
المصدر عثمان الحكيمي
زيارة جميع مقالات: عثمان الحكيمي