من يختبئ تحت عباءة «الثورة»؟
 

غالب قنديل

غالب قنديل -
انفجر الغضب الشعبي وخرج الساخطون في ذروة معاناة اقتصادية اجتماعية خطيرة وانسحاق متزايد للفئات الوسطى، بعدما بلغ النظام الريعي التابع والاستهلاكي درجة عالية من العجز عن تجديد نفسه بدفعات من الديون التي باتت مشروطة بالنيل من مداخيل الفقراء ومحدودي الدخل ومتوسطي الحال.
أولاً، أبدى الرئيس الحريري عشية الانفجار حماسا للتقيد بتوصيات سيدر وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الصدارة، وضغط جاهدا لسن رسوم وضرائب جديدة اعترض عليها بعض الوزراء. كما أعلن رغبته في تطبيق الوصفة الدولية بالتلزيم الشامل لجميع المرافق والخدمات العامة إلى شركات أجنبية ومحلية، كما قال قبيل الانفجار الذي أثارته تصريحات رعناء وغير بريئة لوزير الاتصالات تولى "تسويقها" زميله وزير الإعلام بصورة ضاعفت المخاوف الكامنة.
يدعي المتحمسون أن الحراك موجه ضد جميع القوى الشريكة في النظام السياسي، ويتحصنون خلف شعار "كلن يعني كلن "؛ ولكن واقع الساحات وحواجز قطع الطرقات يقول شيئا آخر. والتمعن في خريطة تكوين المجموعات الناشطة في بحر الغضب العفوي الذي يفيض بشكاوى فردية وجماعية يؤكد الانطباع القوي عن استهداف سياسي في كل ما يجري تحت غطاء العفوية واللاقيادة واللاتنظيم المزعومين.
ثانياً، عباءة الشعبية الفضفاضة في هبة الغضب وغموض القيادة الفعلية باتت تتكشف عن خلطة سياسية وحزبية تشترك في القيادة والتوجيه والاستثمار السياسي بالمفرد والجمع بتغطية شعبوية متقنة يضمنها ويثبتها التعميم المتكرر والمقصود لمسمى الثورة والثوار الذي ترسخه منابر إعلامية كرست هواءها السياسي ومساحات تغطياتها الزمنية والورقية والإلكترونية وقدراتها المتعددة وإمكاناتها ومواهب محرريها ومراسليها المدربين.
 إلى جانب ذلك كله، تبدت مؤشرات تخطيط منهجي للقيادة والتوجيه قامت به فرق أساتذة ومدربين من الجامعتين الأميركية واليسوعية لهندسة "الثورة". وأي من الجامعتين لم تكن مرتبطة يوما وعبر التاريخ القريب او البعيد بمهام ووظائف ثورية حقا؛ فهما استطالتان استعماريتان ثقافيا وسياسيا، ويخضع اختيار الرئيسين لتدقيق استخباراتي مشدد عادة في باريس وواشنطن على السواء، ويعاقب كل من يشب على الطوق من كادر الجامعتين، والشواهد كثيرة ماضيا وحاضرا.
كان مفاجئا تواجد رئيسي أضخم مؤسستين أجنبيتين للتعليم العالي تمتازان بأنهما لا ترحمان العائلات متوسطة الحال في تحصيل أقساط تعليم البنات والأبناء، وقد ظهرا في ساحتي الشهداء ورياض الصلح يخطبان في جموع من الطلاب والأساتذة الذين روجوا مصطلحات أجنبية فتركوا بصمتهم ولكنتهم في خطب "الثورة" عبر وسائل الإعلام، وأدلى الرئيسان بخطب التوجيه الأبوية في "الثوار" فقدموا شاهدا يضاعف الريبة والشكوك والتساؤل عما قاما به الخفاء وقبل اندلاع الغضب الشعبي وبطلب من أي جهات في الخارج والداخل؟
ويبقى التساؤل بلا جواب، ولا يطرحه المنساقون في الحراك على أنفسهم بمن في ذلك من يعلنون انتسابهم لهويات فكرية وطنية وقومية يفترض أنها مناهضة للهيمنة الاستعمارية.
ثالثاً، يكفي التدقيق بهويات الأحزاب السياسية والقوى والتجمعات السابحة في بحر الغضب العفوي للتعرف على خيوط التحريك وخطوط الاستثمار والتوظيف السياسي التي يقررها توازن القوى الراجح لصالح الجهات الأشد رجعية وارتباطا بالخارج، وهي قوى الرابع عشر من آذار التي التم شملها في مناخ الحراك بعدما فرقتها التسوية الرئاسية وجمعها مجددا وجودها في مفاصل الحراك من غير إعلان عودتها للعمل معا، مما يسهم في تثبيت القناع الشعبوي بكل إكسسواراته.
الخلطة الحزبية الحراكية ليست جبهة سياسية معلنة، وربما يتعذر جمع المكونات في أي جبهة لأسباب سياسية وأيديولوجية متعددة؛ لكن واقع أدائها يظهرها في إيقاع واحد بفضل القيادة المكتومة التي تتولى رسم الخطوات والأهداف، وهي جميعا تمثل عقدا حراكية في شبكة غير منظورة ومتناغمة مهما أنكر بعض حسني النوايا.
تتواجد تلك الأحزاب والقوى في الساحات داخل خيم الحوار الحراكي وتتوزع على حواجز قطع الطرقات وفي ميادين الاعتصامات وفقا لما أظهرته التغطيات الإعلامية، وهي احزاب وتيارات وتجمعات متفاوتة الأحجام والإمكانات والتوجهات العقائدية والسياسية، ويمكن إجمالها باللائحة التالية: الحزب الشيوعي وتيار المستقبل والتقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية وحزب الكتائب والأحرار وحركة الشعب وحزب سبعة وجماعة الخضر ومجموعة المحاربين القدامى المناصرة للنائب شامل روكز، وحزب السلام والكتلة الوطنية والجماعة الاسلامية والتنظيم الشعبي الناصري، ومعهم مجموعات يسارية ظهرت في بيروت كتيار "مواطنون ومواطنات في دولة وغيرها"، وعدد من المجموعات الصوفية التي ظهرت في عكار وطرابلس خصوصا. 
في فعل التحريك والتدخل يظهر للمتابع أيضا دور حاكم المصرف المركزي وجمعية المصارف في ضبط إيقاع القلق الشعبي بتناسق الضغوط المالية التي تغذي التوتر والإيحاء المتكرر بقرب الانهيار الكبير. وبالتأكيد حاشا أن نتهم البنوك بتمويل بعض أنشطة الساحات والحواجز مع ان اسم مصرف شهير لعائلة نافذة عقاريا ودينيا تكرر في تقارير عن مصدر التموين اليومي للساحات، مع فندق شهير هناك من يرشح قريبة مالكه الأصلي لرئاسة الحكومة الجديدة.
تبقى الإشارة إلى أنه في قلب هذا الكوكتيل السياسي العقائدي المالي النفطي والإعلامي تتواجد بقوة مجموعات الإنجيئوز المتعددة والطموحة بعلاقاتها المتشعبة مع برامج التدريب على الديمقراطية بالتمويل الأميركي والأوروبي.
بقدر ما توحي هذه اللوحة بصعوبة اجتماع الخليط المتنافر على برنامج موحد، فقد كان ممكنا حشده تحت عباءة شعبية في قلبها يجري كل منهم خلف طريدته المفضلة من الشعبية والتأثير، والجميع مزهو وفرح بما أصاب؛ بينما الناس الفقراء والمسحوقون يضيعون في ضوضاء تذكر بالمثل الشعبي "الجمل بنية والجمال بنية"، والغاضبون هم الجمل الذي ينوء ظهره بحمل هذا الحشد من الركاب، لكن من يمسك بتحديد الاتجاه هو القيادة الخفية المكتومة خلف الكواليس.

أترك تعليقاً

التعليقات