عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في دهاليز السياسة الدولية، حيث تُدار المعارك ببرود وتُحاك القرارات خلف الأبواب المغلقة، لا يكون السباق على المناصب العليا امتحانًا للكفاءة فحسب؛ إنه صراع خفي بين خرائط الجغرافيا ومصالح القوى العظمى. والخطأ الفادح هو الظن بأن الأفراد مجرد بيادق على رقعة الشطرنج العالمية؛ فالتاريخ لا تصنعه الحكومات وحدها، بل تصنعه شخصيات بولاءات وخلفيات ومواقف تقلب طاولات النفوذ وتعيد رسم قواعد اللعبة.
هنا يطل رافائيل غروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كاسم يشق طريقه نحو قمة الهرم الدبلوماسي «منصب الأمين العام للأمم المتحدة». ترشيحه، الذي أعلنت عنه الأرجنتين رسميًا، ليس إجراءً إداريًا عابرًا، بل اختبار مكشوف لتوازن القوى: بين من يريدون الأمم المتحدة بيتًا جامعًا للبشرية، ومن يسعون لتحويلها إلى مكتب سياسي يخدم أجندات الغرب.
فهل ينجح “مهندس النووي” الذي تمرّس في أعقد الملفات في فكّ شفرة حيادٍ مطلق وتوافقٍ دولي؟ أم أن عباءة “المرشح الغربي” ستتحول إلى سندان يكسر طموحه عند بوابة مجلس الأمن؟ والسؤال ليس عن المنصب بل عن الثمن: هل ابتعاده عن الحياد في ملفات كإيران يبشّر بصورة قاتمة لقيادة الأمم المتحدة؟ ماذا يعني وصمه بـ“مرشح الغرب” لتوازن القوى؟ هل سيبدّل نهج الأمم المتحدة تجاه محور المقاومة على نحو يحد من صوت شعوب المنطقة؟ وهل يرسل ترشيحه رسالة بأن المنظمات الدولية خرجت من طابعها الفني لتغدو أدوات سياسية خصوصًا في قضية فلسطين؟ الإجابة لا تأتي من الشعارات، بل من قراءة دقيقة لتوازنات الجغرافيا والسياسة التي تحكم هذا السباق المصيري.

التناوب الجغرافي.. شبح “المرشح الغربي”
التناوب الجغرافي ليس قانونًا مكتوبًا، بل عرفٌ دبلوماسي يتغنى به العالم منذ عقود. ورقة تبدو ذهبية على الطاولة، لكنها في الحقيقة هشّة أمام أول عاصفة سياسية. رافائيل غروسي، القادم من الأرجنتين، يلوّح بهذه الورقة بعد أكثر من ثلاثين عامًا من غياب أمريكا اللاتينية عن رأس المنظمة منذ بيريز دي كويلار. ومع اقتراب نهاية ولاية غوتيريش، ترتفع الأصوات المطالبة بتمثيل عادل للمناطق المهمشة، وكأن العدالة الجغرافية ستُعيد للأمم المتحدة حيادها المفقود.
لكن الحقيقة أكثر قسوة: في الأمم المتحدة لا تحكم الأعراف، بل تحكم المصالح، والفيتو هو السيد المطلق. ورقة التناوب قد تُرفع في الخطابات، لكنها تُسقط عند أول اعتراض من قوة كبرى ترى أن المرشح لا يخدم استراتيجيتها. وهنا يظهر شبح آخر يلاحق غروسي: وصمة “المرشح الغربي”. هذه ليست مجرد توصيف إعلامي، بل قنبلة سياسية موقوتة ارتبطت به منذ إدارته للملفات النووية الحساسة، وعلى رأسها الملف الإيراني، حيث يرى كثيرون أن حياده الفني تلاشى أمام ضغوط السياسة الغربية.
وإذا ما جلس غروسي على مقعد المنظمة، فإن كل قرار سيُقرأ بعين الشك، وكل موقف سيُفسَّر كخدمة لمصالح واشنطن وحلفائها. وهكذا يتحول شبح التحيز الغربي إلى سندانٍ يتهدد مطرقة الحياد، ويترك الأمم المتحدة أمام امتحان وجودي: هل تستطيع أن تحافظ على حيادها، أو على الأقل ما تبقّى من حيادها، أم أن الأيام المقبلة ستكشف أن الحياد الأممي لم يكن سوى وهمٍ جميل يُرفع في الخطابات ويُسقط عند أول اصطدام بجدار المصالح الكبرى.

غروسي بين شبح الأمن وظل السياسة
غروسي يدخل السباق الأممي محاطًا بظلٍّ ثقيل: إرثه النووي. هذا الإرث، الذي صاغه بين تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يطارده اليوم كطيفٍ لا ينطفئ. في “الشرق الأوسط”، حيث الدم يسبق الكلمات، يُقرأ أي انحراف عن الحياد لا كتفصيل إداري، بل كتهديد مباشر للأمن الإقليمي. فإذا ما جلس غروسي على مقعد المنظمة، فإن شبح الأمن سيطغى على صوت الدبلوماسية، وستتحول الحلول السياسية إلى صدى بعيد خلف جدار المصالح الكبرى.
الأمم المتحدة، التي وُلدت لتكون منبرًا للحوار، قد تجد نفسها أسيرة مقاربة أمنية صارمة، تُترجم إلى ضغوط على محور المقاومة، وإلى تقارير تُستخدم كسلاح سياسي أكثر من كونها أدوات فنية. وهكذا يتحول الحياد الأممي إلى سندانٍ يتهدد مطرقة السياسة، ويترك المنظمة أمام امتحان وجودي: هل تستطيع أن تحافظ على حيادها، أو على الأقل ما تبقّى من حيادها؟
وفي الوقت نفسه، يطرح ترشيح غروسي سؤالًا جوهريًا حول مستقبل الاستقلال الفني للمنظمات الدولية. ففي عالم تتشابك فيه المصالح، يصبح من الصعب الفصل بين الخبرة التقنية والولاءات السياسية. الفني هنا لا يقف مستقلًا، بل يبدو خادمًا للسياسي، يرفع شعارات الحياد في الخطابات، ويسقطها عند أول اصطدام بجدار المصالح الكبرى.
الدراما الحقيقية تكمن في أن الأمم المتحدة قد تتحول من منصة للحلول السياسية الشاملة إلى أداة لفرض أجندات أمنية، مما يقلل من قدرتها على إدارة الأزمات بفعالية ويزيد من تعقيد النزاعات الإقليمية. وهكذا يبقى السؤال معلّقًا في فضاء السياسة الدولية: هل تستطيع المنظمة أن تستعيد حيادها المفقود، أم أن إرث غروسي النووي سيظل يطاردها كطيفٍ لا يزول، يذكّر العالم بأن الحياد الأممي لم يكن يومًا سوى وهمٍ جميل؟

فلسطين و”الشرق الأوسط”.. هل يتغير النهج أم يستمر الجمود؟
القضية الفلسطينية كانت دائمًا مرآة عجز الأمم المتحدة، والجمود هو العنوان الأبرز لمسار تعاملها عبر العقود. بيانات باهتة، مراقبة صامتة، ودم يسيل بلا رادع. ومع اقتراب غروسي من مقعد الأمين العام، لا تبدو المؤشرات مختلفة؛ فنهجه المتوقع هو “حياد ظاهري” يفضّل غض الطرف على الإدانة المباشرة، ويحوّل العدالة إلى شعار يُرفع في الخطابات ويسقط عند أول اصطدام بجدار المصالح الكبرى.
الحياد هنا ليس تفصيلاً، بل شرط وجود. وفي غزة والضفة، حيث الحصار والجوع والدواء المفقود، يظل المدنيون أسرى صمت المنظمة، يتابعون بياناتها الباردة التي لا تغيّر شيئًا من واقعهم القاسي. أي تغيير محتمل لن يتجاوز حدود الاهتمام الإعلامي، بينما جوهر السياسة يبقى أسيرًا لمعادلة الاستقرار على حساب العدالة.
وهكذا يبقى الجمود سيد الموقف، يطبع قرارات المنظمة بطابع العجز المزمن، ويترك القضية الفلسطينية رهينة ميزان القوى بدل ميزان العدالة. إنها مرثية حياد مفقود، تُتلى في قاعات الأمم المتحدة، بينما الفلسطينيون وحدهم يدفعون الثمن، وسط عالم يتابع المشهد كأنه مسرحية طويلة بلا نهاية.

أترك تعليقاً

التعليقات