بريطانيا تعود إلى عدن استخباراتياً.. هل هي عودة الإمبراطورية بوجه جديد أم مجرد رقصة أخيرة للثعلب العجوز؟
- عثمان الحكيمي السبت , 29 نـوفـمـبـر , 2025 الساعة 12:05:37 AM
- 0 تعليقات

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
منذ زمن بعيد، ظل سؤال واحد يطارد المؤرخين والمفكرين: هل يعيد التاريخ نفسه؟ بعضهم يرى أن الشعوب تُساق مراراً إلى تكرار أخطائها، وأن الحروب والأزمات ليست إلا نسخاً جديدة من مآس قديمة. في المقابل يؤكد آخرون أن لكل حقبة ظروفها الخاصة وأن لكل عصر شروطه، فلا يمكن أن تتكرر الأحداث بحذافيرها وذلك بسبب اختلاف الظروف السياسية والاقتصادية الذي يجعل التكرار الحرفي أمراً مستحيلاً، وبين هذين الرأيين يبرز اتجاه ثالث أكثر واقعية وأكثر توازناً، يقول إن التاريخ لا يعيد أحداثه كما وقعت، لكنه يعيد إنتاج أنماطه؛ فالصراع على السلطة والموارد والممرات الاستراتيجية يعود عبر العصور بأشكال مختلفة، فيما يبقى جوهره واحداً. ولهذا يرى كثير من المفكرين أن فهم الماضي ليس لمحاولة استنساخه، بل لالتقاط القوانين التي تتكرر بصور جديدة في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
وما يحدث في عدن اليوم هو المثال الأوضح على ذلك؛ فبريطانيا لا ترفع علمها كما فعلت قبل عقود، لكنها تعود عبر شعارات «الأمن البحري» و«المساعدات الإنسانية»، لتعيد تدوير لعبة الأمم بوسائل أكثر نعومة وفتكاً. هكذا يُراد لليمن، بجغرافيته الفريدة وممراته المائية الحيوية، أن يتحوّل إلى ساحة مفتوحة لتجاذب القوى الكبرى، كما كان بالأمس، لكن بأدوات العصر الجديد.
عدن.. فراغ استراتيجي ومكر الثعلب العجوز
إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه بحذافيره، فإنه يعيد إنتاج أنماطه في صور جديدة، وهذا ما نراه في عدن اليوم؛ فبريطانيا لا تتعامل مع دولة قائمة، بل مع فراغ استراتيجي تسعى لملئه. ما تسمى بـ»الحكومة المعترف بها دولياً» لم تعد سوى واجهة بالية لمصالح متضاربة، جسد بلا رأس يتآكله الصراع السعودي -الإماراتي. وهنا يظهر مكر «الثعلب العجوز» الذي لا يراهن على طرف واحد، بل يمد خيوطه إلى الجميع، يغذي الانقسامات بوعود الدعم والتمويل، ويحوّل ما تبقى من مؤسسات إلى أدوات طيعة. تصريحات السفير البريطاني عن دعم «خفر السواحل» ليست دعماً لمؤسسة أمنية، بل خصخصة للأمن وخلق مليشيا بحرية جديدة تدين بالولاء للممول لا لليمن. إنها نسخة محدثة من الاستراتيجية الاستعمارية القديمة: تفكيك ما تبقى من مؤسسات ثم إعادة بنائها على أسس مناطقية أو فئوية، لتصبح خناجر في ظهر اليمن. وهكذا يتجسد المشروع في صورة «حرب الوكلاء»: قوة ظل ممولة ومسلحة، مهمتها إشغال صنعاء في الداخل وتأمين قواعد الغرب في سقطرى وميون. إنها لعبة الأمم بنكهة بريطانية، حيث تختلط المساعدات بالأسلحة، والتدريب بالاستخبارات، وكل خطوة محسوبة على رقعة شطرنج إقليمية، هدفها إبقاء اليمن ضعيفاً ومجزأً ليظل الممر البحري تحت السيطرة.
من المساعدات إلى الحرب الاقتصادية
لقد تغيّر شكل الاستعمار، لكن جوهره ظل كما هو. لم تعد بريطانيا بحاجة إلى أساطيلها لترفع علم «اليونيون جاك» فوق عدن؛ اليوم لديها أدوات أكثر نعومة وفتكاً. مبلغ الـ149 مليون جنيه إسترليني المعلن كمساعدات إنسانية ليس سوى عملية «غسيل سياسي»، تُضخ عبر شبكة من المنظمات غير الحكومية والمراكز البحثية والناشطين الإعلاميين، لتشكيل «جيش ناعم» يروّج للانفصال، ويصوّر صنعاء كعدو مطلق، ويبرر الوجود الأجنبي تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. إنها عملية تبييض للاحتلال، تجعل التدخل الخارجي مطلباً داخلياً، وتحوّل الضحية إلى جلاد، والجلاد إلى حمامة سلام. لكن الحرب لا تقف عند هذا الحد؛ فهي اقتصادية أيضاً. بريطانيا، بصفتها مركزاً مالياً عالمياً، تدرك أن خنق صنعاء يبدأ من الوريد المالي. لذلك تركز سفارتها في عدن على ملف الواردات وتجفيف الموارد، في عملية هدم ممنهجة للاقتصاد اليمني، تُدار من غرف مغلقة في لندن وواشنطن، بينما تظهر آثارها في حياة المواطن اليومية. إنها لعبة خطيرة، حيث الاقتصاد يصبح سلاحاً أشد فتكاً من المدافع، لكنه أيضاً أكثر هشاشة أمام ارتدادات قد تطال مصالح بريطانيا نفسها.
باب المندب بين استعراض القوة وحافة الهاوية
كل ما حدث، من عدن إلى غزة، دار في فلك معركة واحدة كبرى، معركة السيطرة على الممرات المائية التي تمثل شرايين العالم. لقد نجحت صنعاء، خلال الأشهر الماضية، في كسر احتكار القوة الذي تمتعت به القوى الغربية لعقود في البحر الأحمر، وأثبتت أن دولة من العالم الثالث كما يسموها، بإمكانيات محدودة ولكن بإرادة صلبة، قادرة على تحدي أقوى الأساطيل البحرية وفرض شروطها. هذا التحدي الوجودي هو ما يقض مضاجع لندن وواشنطن، وهو المحرك الحقيقي لعودتهما المحمومة إلى المنطقة. فالهدف من تدريب «خفر السواحل» ليس حماية سفن الصيد، بل خلق قوة وكيلة قادرة على الاشتباك مع قوات صنعاء، في محاولة يائسة لاستعادة «هيبة الردع» المفقودة وإعادة فتح باب المندب بالقوة. لكن هذه المحاولة قد تأتي بنتائج عكسية، فأي اشتباك قد يشعل حرباً إقليمية واسعة، وهو السيناريو الكابوسي الذي قد تجد بريطانيا نفسها قد استدرجت إليه العالم بأسره. وفي خضم هذا الصراع، يقف اليمن على مفترق طرق؛ فإما نجاح الاستراتيجية البريطانية في إغراقه في فوضى التقسيم وتحويله إلى دويلات متصارعة، وإما فشل هذا المخطط وولادة قوة يمنية جديدة قادرة على فرض سيادتها وتغيير موازين القوى. بين رهان لندن على الفوضى ورهان صنعاء على الوحدة، نقف نحن المراقبين، منتظرين ما ستكشفه الأيام القادمة، وما إذا كانت رقصة الثعلب في عدن هي الأخيرة، أم مجرد بداية لفصل جديد أكثر دموية.
حرب الوعي.. اليمن في مواجهة غرف الظل
الخطأ الجوهري الذي ترتكبه بريطانيا، ومعها القوى الكبرى، هو أنها ما زالت تتعامل مع اليمن كمساحة جغرافية يمكن ضبطها بالقوة أو تجويعها بالحصار. لكن القراءة الأمنية تكشف أن اليمن لم يعد مجرد أرض، بل تحوّل إلى «فكرة» يصعب اختراقها. هذه الفكرة وُلدت من رحم المعاناة، وتقول إن الكرامة والسيادة ليستا شعارات بل خطوط حمراء في وعي جمعي جديد. هنا تكمن المعضلة الاستخباراتية: فالصواريخ لم تنجح في قتل الفكرة، والحصار لم يفلح في تجويعها، والمساعدات المموهة لم تتمكن من شرائها. المعركة الحقيقية انتقلت من الميدان العسكري إلى ميدان الوعي، حيث يصبح كل خطاب وكل صورة وكل شائعة جزءاً من حرب نفسية تستهدف كسر الإرادة. بريطانيا تراهن على «حرب الوكلاء» و«الهندسة الاجتماعية» لإعادة اليمن إلى حظيرة التبعية، بينما اليمنيون يراهنون على تحويل هذا الوعي الوليد إلى سلاح ردع استراتيجي. ومن منظور استخباراتي، فإن أخطر ما يواجه الغرب اليوم ليس الصواريخ ولا الممرات البحرية، بل فكرة تتجذر في عقول الناس: أن اليمن لا يمكن احتلاله لأنه أصبح مشروع وعي جماعي، يفرض نفسه كمعادلة أمنية جديدة في المنطقة. وهكذا قد تكون رقصة الثعلب في عدن آخر محاولة لاختراق هذا الوعي، قبل أن يُسدل الستار على عصر كامل وتشرق شمس «يمن الفكرة» الذي لا يمكن إخضاعه.
اليمن.. عقدة في خرائط الاستخبارات الدولية
ما يجعل المشهد اليمني أكثر تعقيداً اليوم هو أنه لم يعد ملفاً محلياً أو حتى إقليمياً، بل أصبح جزءاً من خرائط الاستخبارات الدولية. فباب المندب وسواحل عدن لم تعد مجرد نقاط عبور تجارية، بل تحولت إلى عقدة مراقبة تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى: أقمار صناعية ترصد التحركات، طائرات مسيّرة تجمع البيانات، وشبكات بشرية تعمل تحت غطاء منظمات إنسانية أو شركات تجارية. بريطانيا، ومعها الغرب، تدير هذا الملف كعملية استخباراتية طويلة الأمد، هدفها ليس فقط السيطرة على الممرات البحرية، بل إعادة هندسة البنية الاجتماعية والسياسية في اليمن بما يضمن بقاءه ضعيفاً ومجزأً. وفي المقابل، تحاول صنعاء تحويل هذا الضغط الاستخباراتي إلى فرصة، عبر بناء منظومة ردع غير تقليدية تقوم على الوعي الشعبي والقدرة على كشف الاختراقات. هكذا يصبح اليمن اليوم ليس مجرد ساحة حرب، بل عقدة أمنية عالمية، اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الاستخبارات الغربية على إخضاع فكرة تحولت إلى مقاومة جماعية.










المصدر عثمان الحكيمي
زيارة جميع مقالات: عثمان الحكيمي