أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

نشهد اليوم مظاهر أزمة النظام المالي العالمي الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية في مؤتمر «برايتون وودز»، وكانت أزمة «الكساد الكبير» في الثلاثينيات هي التي دفعت إلى الحرب العالمية الثانية ونشوء النظام المالي العالمي، وقد عرفت بأنها أسوأ أزمة في تاريخ الرأسمالية. وإذا كانت أزمة ثلاثينيات القرن الماضي قد استمرت 6 سنوات وأدت إلى تلك النتائج التي غيرت شكل العالم؛ فإن الأزمة الدورية الأخيرة التي انتهت 
في العام 2009 هي أشد كارثية من أزمة الثلاثينيات، فما زال الركود الذي تسببت به مستمراً حتى اليوم،  فكيف بتفاعله مع ركود «كورونا» الاضطراري؟!

الأزمة الجذرية النهائية للرأسمالية العالمية بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وعمّقها تقهقر المُعسكر الاشتراكي وتغلغل الرأسمالية في العالم. والرأسمالية الاحتكارية «الإمبريالية» هي اليوم في نهاياتها كنظام اقتصادي، لا في نهاية عمرها بحساب الوقت الذي قد يطول أو يقصر، فما تعانيه من أزمات بعد تحولها إلى احتكارية (إمبريالية) لا يُمكن تجاوزه، فلا تملك نظاماً اقتصادياً تالياً لهذا الشكل المعولم، وكل المخارج تتناقض مع بقاء الاقتصاد العالمي وفق صيغة النيولبرالية الراهنة.
ولهذا يحاول الرأسماليون في العالم أن يستثمروا فيروس «كورونا» ويستخدموه كحرب عالمية ثالثة، لإنقاذ النظام المالي العالمي، كما فعلت الحرب العالمية الثانية مع أزمة الكساد الكبير.
الحرب تنقذ الاقتصاد الرأسمالي من أزماته الدورية، حيث إنها تعيد التوازن إلى السوق، بإلغاء الديون التي تفوق الناتج الحقيقي. وتتم هذه الطريقة إما بزوال الدائنين وتحول المدين إلى دائن، أو باستعمار بلد المدينين والاستيلاء على شركاتهم وتسوية ديونهم عن طريق النهب.
أول نتائج الأزمة الجذرية النهائية المُركبة، التي يُضاعف «كورونا» تعقدها، إضعاف سيادة الولايات المتحدة في العلاقات الدولية، وانبثاق أقطاب وتحالفات دولية جديدة. وما نشاهده اليوم من سلوك سياسي واقتصادي للرئيس ترامب شاهد على هذه المسألة، فترامب يُدافع عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية كدولة قومية (رأسمالية الدولة الاحتكارية) على حساب حضورها الدولي كإمبراطورية استعمارية.
فمن جهة بالنسبة للدولة الأمريكية والرأسماليين أصحاب القطاعات الإنتاجية والخدمية داخل أمريكا يُعد ترامب وطنياً، وبالنسبة لأصحاب المصارف والاحتكارات العابرة للقوميات يُعتبر خائنا، ولهذا شُنت حملة دعائية ضده بأن روسيا تدخلت في الانتخابات التي أوصلته إلى البيت الأبيض.
(ويمكن أن أخصص موضوعاً مستقلاً لهذه الجزئية التي تبدو غامضة).
نحن في مصلحتنا أن ينتصر ترامب لأمريكا الدولة فتصبح أحد أقطاب النظام العالمي، ويُساهم في هدم أمريكا الإمبراطورية كأداة في يد الطغمة الإمبريالية الحاكمة لأمريكا والعالم، فيصبح ترامب النسخة الأمريكية من «غورباتشيف» السوفياتي، ويلعب دور «أتاتورك» الذي ركز على بقاء تركيا كدولة قومية على حساب نفوذها القديم كإمبراطورية استعمارية.
وفي السنوات القادمة سنشهد المرحلة السابقة للانهيار الرأسمالي، والتي سوف تبرز أولاً في الميدان السياسي، حيث سينتقل العالم إلى عالم متعدد الأقطاب وتزول الهيمنة الأمريكية الأحادية عليه، وبالمعنى الاقتصادي زوال الشكل الراهن، حيث العالم إقليم اقتصادي واحد تديره أمريكا وتحول الاقتصاد العالمي إلى أقاليم اقتصادية متعددة، وهذا الأمر قد بدأ فعلاً وتشكلت منظماته الدولية.

وتعاني الإمبريالية الأمريكية خصوصاً، والعالمية عموماً، من أزمات مركبة، هي كالتالي:
ـ أزمة الركود، وجوهر هذه الأزمة هو التناقض بين اتساع الإنتاج السلعي ووفرة السلع بشكل كبير مع ضيق القدرة الشرائية.
ـ الأزمة العامة، وتجلياتها الراهنة أن الدول التي صدرت إليها الرأسمالية الأمريكية رؤوس أموالها وشغلتها فيها، أصبحت تصدر وتنافس الشركات الأم في البلدان الكبرى وفي أمريكا.
ـ الأزمة البنيوية الهيكلية، وهي متعلقة بنفاد المواد الخام في الدول الإمبريالية، وهذه الأزمة برزت منذ السبعينيات، وتعني انسداد الأفق الصناعي الاقتصادي للرأسمالية بدون هذه العلاقة مع الدول النامية والاشتراكية السابقة، وهي علاقة ستمضي نحو التوازن بفعل النهوض الوطني والنضوج الديمقراطي.
ـ أزمة الدولار والفقاقيع المالية، ومضمون هذه الأزمة أنه فيما مضى كان كل شيء طبيعيا في الولايات المتحدة الأمريكية طالما الأمريكيون يطبعون أوراق الدولار التي لا قيمة لها ويصدرونها إلى الخارج، فتزيح العملات المحلية الإقليمية وتحل محلها، إلا أن هذا التوسع وصل إلى أقصى حد ولم يعد هناك مجال للتوسع العالمي، فالعالم أصبح سوقاً واحدة. 
ـ بالإضافة إلى تأثير المجمعات الصناعية العسكرية في ميزانيات الدول وتنافسها، وتعمق واتساع ونشوء العديد من الثورات العلمية التكنيكية في كل أنحاء العالم المتحضر، ودورها في اتساع شدة التناقض التناحري مع حركة أشكال الملكية الخاصة، ومجموع نشاطات حركة الطغم المالية، مما يهيئ لحشد اجتماعي واسع ضد الرأسمالية.

«كورونا» كحرب عالمية ثالثة
نشهد اليوم أزمة النظام المالي العالمي الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية في مؤتمر «برايتون وودز»، الحرب التي خُطط لها لكي تنقذ الاقتصاد من أزمة ثلاثينيات القرن الماضي. آخر أزمة دورية بدأت عام2007، ورغم أنها انتهت عام 2009 كأزمة، إلَّا أن الركود مازال مُستمراً فيما كان يُفترض أن يعاود الاقتصاد النهوض مرة أخرى. وإذا كانت أزمة ثلاثينيات القرن الماضي (الكساد الكبير) قد استمرت 6 سنوات فقط منذ 1933 حتى 1939؛ فإن الأزمة الدورية الأخيرة التي انتهت في العام 2009 هي أشد كارثية، فما زال الركود الذي تسببت به مستمراً حتى اليوم، واليوم يسعى الرأسماليون الذين يملكون الاقتصاد العالمي إلى الاستفادة من أزمة «كورونا» -إذا لم يكونوا هم من صنعها أصلاً- من أجل معالجة الاختلال والتعامل مع «كورونا» كحرب عالمية ثالثة، فالحرب تنقذ الاقتصاد الرأسمالي من أزماته العميقة، حيث إنها تعيد التوازن إلى السوق، بإلغاء الديون التي تفوق الناتج الحقيقي. وتتم هذه الطريقة إما بزوال الدائنين وتحول المدين إلى دائن، أو باستعمار بلد المدينين والاستيلاء على شركاتهم وتسوية ديونهم عن طريق نهب ثرواتهم. 
وفي هذا الصدد يعتقد البروفسور الروسي كاتاسونوف أنه ومع ظهور فيروس «كورونا»، «بدأت السلطات الغربية بتضخيم حالة الذعر جراء ذلك، وخلق جو من الرعب في المجتمع. وباستغلالها حالة الرعب، تمسك السلطات بصلاحيات غير محدودة وتبدأ بالتدخل في الاقتصاد». 
ويعتقد كاتسونوف أن «الحرب الفيروسية لن تنتهي حالما تسجل الإحصاءات الطبية انخفاضاً ملحوظا في عدد حالات العدوى والوفاة بفيروس (كورونا)، بل ستنتهي عندما تصل أسواق الأسهم إلى الحضيض. وفي هذه اللحظة سيشتري (أصحاب الأموال) كل الأصول التي فقدت قيمتها، وسيبلغون مستوى جديدا من السيطرة على الاقتصاد العالمي. وعندما تنتهي جولة النمو الاقتصادي الجديدة، سيدخل الاقتصاد مرحلة انحسار. وعندئذ ستخترع السلطات الحاكمة مرة أخرى فيروساً ما. ومرة أخرى ستتكرر تمثيلية «مكافحة الجائحة». تلكم هي الترسيمة الجديدة، نوعيا، للدورة الاقتصادية التي لم يبق لنا إلا أن نسميها الدورة الاقتصادية ـ الفيروسية».

مظاهر الأزمة الجذرية النهائية وتداعياتها الأولية
إن الرأسمالية الاحتكارية في مراكزها الإمبريالية المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تعاني من أزمات حادة منذ نهاية القرن الماضي تتفجر بأزمات متنوعة بين فترة وأخرى، وآخر أزماتها الدورية هي الأزمة المالية والاقتصادية الكبرى التي تفجرت عام 2008 والتي ما تزال عواقبها مستمرة في جميع الدول الرأسمالية المتقدمة.
الأزمة الجذرية النهائية للرأسمالية العالمية بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وعمّقها تقهقر المُعسكر الاشتراكي وتغلغل الرأسمالية في العالم، وهي اليوم في نهاياتها كنظام اقتصادي، لا في نهاية عمرها بحساب الوقت الذي قد يطول أو يقصر، فما تعانيه الرأسمالية من أزمات بعد تحولها إلى احتكارية (إمبريالية) لا يُمكن تجاوزه، فلا تملك نظاماً اقتصادياً تالياً لهذا الشكل المعولم للإمبريالية لتهرب إليه، فهي كنظام اقتصادي زائلة لا محالة، وفي السنوات القادمة سنشهد مرحلتها السابقة للانهيار، والتي سوف تبرز أولاً في المجال السياسي، حيث سينتقل العالم إلى عالم متعدد الأقطاب وتزول الهيمنة الأمريكية الأحادية عليه، وبالمعنى الاقتصادي زوال الشكل الاقتصادي اليوم حيث العالم إقليم اقتصادي واحد تديره أمريكا وتوزع العالم إلى أقاليم اقتصادية متعددة، وهذا الأمر قد بدأ فعلاً وتشكلت منظماته الدولية.
إن أول نتائج الأزمة الجذرية النهائية المُركبة، التي يُضاعف «كورونا» تعقيدها، ضعف سيادة الولايات المتحدة في العلاقات الدولية، وانبثاق أقطاب وتحالفات دولية جديدة تستمد قوتها من العلاقات الاقتصادية التجارية المشتركة ومن الموازين الاقتصادية الفعلية، وما نشاهده من سلوك سياسي واقتصادي للرئيس ترامب شاهد على هذه المسألة، فترامب برفعه شعار «أمريكا أولا» وبوضع إجراءات الحماية الاقتصادية وتراجعه عن «الجات»، يُدافع عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية كدولة قومية على حساب حضورها الدولي كإمبراطورية، وينهب أموال الخليج لتحريك اقتصادها الحقيقي الإنتاجي ويشغل مصانع السلاح ويضغط على البنك الفيدرالي (المملوك للقطاع الخاص).

أترك تعليقاً

التعليقات