المراهقة اليسارية و«الحب الحر»!
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

على خلفية انتشار صورة شاب يقبل فتاة في الاحتجاجات اللبنانية، تناقل عدد من «الرفاق» الاشتراكيين هذه الصورة وقدموها كأيقونة للثورة تكاد تزاحم أيقونة جيفارا! والحقيقة أن من نشرها ليس فقط الشباب من الاشتراكيين اليمنيين، بل وشباب من الاشتراكيين العرب، وليست هذه أول صورة ينشرونها بل تماثلها كثير من الصور التي تلقى الاحتفاء من اليساريين، وهي في نظرهم صور ثورية يجتمع فيها الحب مع الثورة، وهذا أمر غير صحيح من وجهة النظر الماركسية، بل إن ربط الثورة بمثل تلك الصور أمر خطير. 

الوعي الدافع خلف نشر صور كتلك ليس اشتراكياً، بل ليبرالياً، ورسالة الاشتراكيين ليست العناق والقبل بل الخبز والعدالة. والاشتراكية لا تدعو إلى العلاقات غير المنضبطة، تلك التي لا تهدف إلى تكوين أسرة بل للمتعة وتلبية الاحتياجات الفسيولوجية، فلينين يعتبرها مظهرا للفساد الأخلاقي البرجوازي ونوعاً من الاستغلال الطبقي والانحطاط بالإنسان إلى الحيوانية، وأعلى أشكال هذا التفسخ هي الدعارة التي تعد أحد أهم القطاعات الاقتصادية للرأسمالية في هذا العصر رغم وجودها في التشكيلات الاجتماعية السابقة (العبودية والإقطاعية) وقد رفضها الفلاسفة والأنبياء.
الحريات التي يناضل من أجلها الاشتراكيون، بعد نيل حرية الوطن، هي حرية النشاط النقابي العمالي والحزبي والنشر والتعبير والإبداع ذي المضمون الاجتماعي المنحاز للناس وللجديد الإنساني الطاهر من كل استغلال وامتهان لإنسانية الإنسان. ولا يناضل الاشتراكيون الحقيقيون من أجل الحريات الاجتماعية بمعناها الليبرالي: التحلل من القيم والأخلاق والروابط الاجتماعية في العلاقات الإنسانية عموما من العاطفية والجنسية إلى الاقتصادية.
لفلادمير لينين رسالة هامة يرفض فيها مفهوم «الحب الحر». ولكارل ماركس نظرة إلى الحب الإنساني وشروط اكتماله، وإلى الأسرة. ولعلم الاجتماع الماركسي أيضا فلسفته الخاصة بهذه القضية، وهو موقف ملتزم أخلاقيا، ومع توحيد المجتمع ونواته الأسرة، ومع عيش الإنسان حياة اجتماعية يعيش للناس كما يعيشون من أجله.
أي أن الموقف الماركسي اللينيني هو على النقيض من الدعايات الليبرالية والإخوانية التي تقول بأن الاشتراكية ضد الأسرة ومع الانحلال الأخلاقي والإباحية الجنسية.

موقف لينين من « الحب الحر»
وضعت اينيس آرمان، المناضلة الفرنسية المعاصرة للينين، مشروعا في مستهل عام 1915 لكتابة نشرة للعاملات عن العلاقات بين الرجل والمرأة. وقد بعثت بمخطط هذه الكراسة إلى لينين الذي كان موجودا آنذاك في سويسرا، وقد أنحى عليها هذا الأخير باللائمة، برد لكن بحزم، في رسالتين منه إليها لمطالبتها البروليتاريا بـ»الحب الحر». وقد نشر نص هاتين الرسالتين لأول مرة في موسكو عام 1939. وهنا نذكر الرسالة الأولى فهي مختصرة ومكتملة المعنى، أما الرسالة الثانية فهي تفصيل لها. 

فلادمير لينين 15 كانون الثاني 1915:
«صديقتي العزيزة، أرجو منك المزيد من التفصيل في كراستك، وإلا فإن أشياء كثيرة ستظل غير محددة. أود من الآن أن أعبر لك عن رأيي بصدد نقطة محددة: إنني أنصحك بحذف الفقرة الثالثة: المطالبة (للمرأة) بالحب الحر؛ فهذا ليس بمطلب بروليتاري، وإنما برجوازي! ماذا تقصدين بذلك؟ ماذا يمكن أن يفهم من ذلك؟
1 - التحرر من الحسابات المادية (المالية) في الحب؟ 2 - من الهموم المادية؟ 3 - من الآراء المسبقة الدينية؟ 4 - من النواهي الأبوية؟ 5 - من آراء «المجتمع» المسبقة؟  6 - من البيئة الخسيسة (الفلاحية، البرجوازية الصغيرة، المثقفة البرجوازية)؟ 7 - من عراقيل القانون والمحاكم والشرطة؟ 8 - من تبعات الحب الجدية؟ 9 - من إنجاب الأولاد؟ 10 - السماح بالزنى؟... الخ
لقد عددت كثيرا من النقاط (وليس جميعها). وأنت لا تقصدين، هذا مؤكد، النقاط من 8 إلى 10، وإنما النقاط من 1 إلى 7، أو شيئاً قريبا من النقاط 1 إلى 7.
ولكن ينبغي، بالنسبة إلى النقاط من 1 إلى 7، اختيار صيغة أخرى، لأن الحب الحر لا يعبر تعبيراً دقيقاً عن هذا النوع من الاهتمامات. إن الجمهور وقارئ الكراسة سيفهمان حتما من «الحب الحر» شيئا من نوع النقاط من 8 إلى 10، حتى إن لم تشائي ذلك. ولأن الطبقات الأكثر ثرثرة والأكثر لغطاً والأكثر «بروزا» في المجتمع الراهن تفهم الحب الحر بالنقاط من 8 إلى 10، لذا فهذا المطلب ليس ببروليتاري وإنما هو برجوازي.
أما بالنسبة إلى البروليتاريا فإن النقاط الأهم هي النقطتان 1 و2، ثم النقاط من 3 إلى 7، ولكن ليس هذا هو «الحب الحر» بحصر المعنى. وليست المسألة ما «تقصدينه» ذاتيا بهذا. وإنما المسألة مسألة المنطق الموضوعي للعلاقات الطبقية في الحب.
أصافحك مصافحة الصديق». 
انتهت الرسالة. 

حرية العلاقات الغرامية ليست قضية اشتراكية 
حق الشاب في مواعدة فتاة وممارسة الجنس معها بدون زواج ليست قضية الاشتراكيين أصلاً، وليس لها أي صلة في النضال، ولا تساعد عليه، ولا تمس مصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين والجياع، وإذا لم توجد هذه العلاقات «الحرة» فلن يتضرر نضال الطبقة العاملة. عدم وجود حرية فردية في العلاقة الجنسية لا يتماثل مع عدم وجود حرية للنشاط النقابي، فهذا الأخير عدم وجوده هو ما يهدد نشاط الطبقة العاملة، أما الأول فلا. كما أن الحب المتحرر من التبعات الجدية للحب كما يقول لينين ليست قضية اشتراكية. وأنا لا أفهم من مقولة لينين التبعات الجدية للحب إلا بناء أسرة. إذن ليست القضية أن يتحرر المجتمع من القوانين والوصايا والقيود التي تنتمي لعهد الإقطاع، وليست كلها سلبية، ففي كل تشكيلة اجتماعية كان هناك ايجابيات وقانون نفي النفي ينفي السلبي ويبقي على الإيجابي. والفكر الاشتراكي -كما يفيد لينين- وريث كل ما هو إيجابي في الفكر الإنساني والدعوة إلى الطهر والزكاء والترفع عن الحيوانية الفيسيولوجية التي تحكم مجتمع الإقطاع والعبودية. إن هذه المسائل التي جاءت بها الأديان وأكد عليها الفلاسفة، على الاشتراكيين كوريثة لكل ما هو تقدمي في الفكر الإنساني أن يستوعبوها، ويتركوا ما جاء من تشريعات وقوانين ومفاهيم رجعية دينية مشوهة أو عشائرية قبلية فيها امتهان وعلاقات استعباد واستغلال.
تحرير العلاقة بين الرجل والمرأة خارج الزواج الديني ليست قضية الاشتراكيين عموماً أو الاشتراكيين العرب، بل قضية الليبراليين في أوروبا، وقد طرحوها في ثورتهم. قضية الاشتراكيين كيف نحرر المجتمع ومن ضمنه هذه العلاقة بين الرجل والمرأة من واقع توحش واستعباد الرأسمالية، ووفق الفلسفة الاشتراكية والمسؤولية الاجتماعية، ووفق التوجه إلى «الجتمعة» وبناء مجتمع مترابط تعاوني وتعالج كل القضايا بما يصب في المصلحة الاجتماعية، لا وفق النزعة الفردانية في عيش الحياة الاجتماعية وفي حل القضايا ومنها مسألة الجنس. وتلك دول الغرب التي حلت هذه المسألة وفق الفلسفة الليبرالية تواجه مشكلة تمزق المجتمع ومشكلة الإجهاض والحمل المبكر في صفوف الطالبات وظهور أولاد بدون أسر، كمشاكل اجتماعية مبشرة نتيجة هذه الحلول الليبرالية. وهناك مشكلة الدعارة المنظمة، فلا العلاقات غير المنضبطة بهدف اجتماعي وفق الحرية الليبرالية الفردية شيء جيد، ولا الدعارة المنظمة شيء جيد، فهل تريد لمجتمعاتنا فتح المجال أمام العلاقات المفتوحة المتحررة من الالتزام الاجتماعي في بناء أسرة والتي تشوبها عادة استغلال من الذكر لمشاعر وجسد المرأة، وقد تنتهي في مجتمعاتنا بالقتل؟! أم تريد إباحة الدعارة كحق برجوازي لمن يملك المال؟! وبهذا نكون رفضنا الرجعية والدين وتحررنا وتقدمنا. إن هذه هي الرجعية بعينها! 

هل الصورة مشهد ثوري جميل؟
البعض من الاشتراكيين ممن نشروا الصورة افترضوا أنها صورة جميلة وليست إيحائية جنسية، فهل هي فعلاً صورة جميلة من وجهة النظر الاشتراكية؟! 
الجمال هو في مشهد إنتاج الحياة، في نشاط عامل وفلاح وطالب وأستاذ، في وقفة رجل مرور، وفي مساعدة شاب لعجوز يقطع الشارع، في مشهد جندي ينزف رافعا العلم أو يحمل رفيقه المصاب... الجميل ليس فقط جميلاً في ذاته (كما هي عليه نظرية الفن للفن البرجوازية وكما ينظر الليبراليون للجمال كمعطى حسي وفق فلسفة مادية مبتذلة)، بل الجمال مشروط بضرورة ارتباطه بالوظيفة الاجتماعية، أي الجميل ما هو مرتبط بموقف قيمي وسامٍ ومرتبط بالحياة الواقعية، لا مزيف لها، وبما يخدم تقدم المجتمع والإنسانية، ويعمل على تحفيز الإنسان للقيام بنشاط نافع على غراره في عملية محاكاة سلوكية بعد تأثر وجداني. وهذه الصورة تحفز على العناق والقبل في الشارع، وهي ليست قضية الطبقة العاملة ولا جماهير الكادحين. هكذا يفهم الجمال في علم الجمال الماركسي.
الاشتراكية ليست ضد الجمال، بل تفهمه على نحو أعمق، وتبدي له اهتماما خاصا، وتفترض أن الإنسان بعد أن يشبع الحاجات الأساسية من طعام وشراب وسكن ويأمن استقرار حياته حياة كريمة، بأن مستقبلة سيكون في الاغتناء الروحي والجمالي والفني وانفتاح الآفاق الجمالية أمامه.
وكما يقول ماركس فالإنسان بحاجة أولاً ليأكل ويشرب ويلبس ويسكن، قبل ممارسة الثقافة والفن... الخ، وتقديم القبل والعناق على الخبز وتوجيه الجماهير نحو هذا التوجه إنما هو تجميل للواقع البشع، حيث الحرب والجوع والموت. وتجميل الواقع البشع موقف رجعي يخدم من لهم مصالح من بقاء الواقع كما هو أو في زيادة تدهوره. هكذا يرى الماركسيون الجمال. أما وضع حميمي لعلاقة خاصة بين رجل وامرأة في الشارع العام حتى لو كانت زوجته، فلا يقيم من وجهة النظر الماركسية كمشهد جمالي، بل ينظرون له كفعل فاضح!

أترك تعليقاً

التعليقات