أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

«النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ» هو آخر مؤلف أصدره ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر، في العام 2014م. ترجمة د. فاضل جتكر، دار الكتاب العربي، 2015م. 
الفكرة المركزية للكتاب هي أن العالم بحاجة ماسة إلى نظام عالمي جديد، وإلا فإن الفوضى الجيوسياسية ستدمر النظام العالمي الذي خلقته معاهدة «ويستفاليا». وكيسنجر ينحاز إلى النظرة المحافظة للطبيعة الإنسانية باعتبارها صراعية. ويرى أن الفكرة الأوروبية «بوضع ضوابط على هذا التنافس»،  من خلال «توازن القوى» بين الدول الكبرى،  هي قمة الدبلوماسية، والفكرة الرئيسية في النظام الويستفالي هي التوازن  الذي يعد جوهر فلسفة « كيسنجر»  السياسية،  ومفتاح فهم أفكاره عن الدبلوماسية. 


يؤمن كيسنجر بالدور السيادي الأمريكي في العالم، ويرى أن الحروب ضريبة مقبولة للحفاظ على النظام الدولي. وأخطر ما قاله كيسنجر أنه يفضل "بلقنة سوريا" (تقسيمها عرقياً ومذهبياً ودينياً) على انتصار بشار الأسد. وفي رأيه هناك حسنات من وراء تفتيت هذه الدول إلى دويلات صغيرة، لأنه "يمكّن القوى العرقية والمذهبية والأقليات من السيطرة على مناطقها والاستحواذ على حقوقها، ما يفتح المجال أمام دمجها في نظام عالمي جديد". 
ينتهي كيسنجر إلى أن النظام العالمي الجديد يستحيل أن يكون أحادي القطب، بل ينبغي أن يكون متعدد الأقطاب، مشتركاً بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن كيسنجر في العام 2018م عاد لينصح ترامب بالانفتاح على روسيا وترك الصين، وذلك لأن الصين بدأت تضم جزراً صناعية في بحرها الجنوبي إلى سيادتها، واهتمت أمنياً بالسيطرة على تلك المنطقة، ووضعت لها مكانة خاصة في استراتيجيتها الاقتصادية "الطرق والحزام". 
وفق فهم كيسنجر، جوهر المعضلة أن الحضارة الإسلامية تحمل نظرة مغايرة لنظام ويستفاليا.  نقطة الانطلاق في التجربة التاريخية الإسلامية لم تكن الدولة، وإنما  مفهوم " دار الإسلام ودار الحرب" ، وفكرة "الجهاد المقدس".  فيما مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية - ركيزة ويستفاليا-  لا معنى له، لأن الحكم القائم في " دار الحرب" - في نظر المسلمين-  غير شرعي.
ويرى كيسنجر بأن  إيران تشكل تهديداً جدياً للنظام الويستفالي،  إن إيران الخمينية لا تعترف بالدولة ككيان شرعي، وإنما كسلاح يمكن اللجوء إليه  وقت الحاجة،  من أجل شن الحرب الدينية المقدسة،  وهو هنا يماثل بين الإسلام في هذا العصر والشيوعية في العصر السابق، فكلا النظامين كانا ضد رؤيته للنظام العالمي. 

النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ
منذ أن وضع كيسنجر أطروحته للدكتوراه " استعادة العالم:  مترنيخ وكاستليرج ومشاكل السلام  1812- 1822"، وعلى مدى ما يقرب من 6 عقود، لم يتغير منهج كيسنجر الرجعي المحافظ،  فهو يؤمن بأن هناك قواعد تحكم العالم لم تتغير منذ معاهدة عام  1648،  أي منذ نحو 4 قرون، الأمر الذي يستحيل تخيله بالنسبة إلى أي أكاديمي أو سياسي  غير محافظ،  حتى إذا لم يكن تفكيره ليبرالياً أو تقدمياً. 
وبحسب رأي كيسنجر، فإن النظام العالمي لم يكن موجوداً تاريخياً، وأقرب النماذج له هو النظام العالمي الذي خلقته معاهدة ويستفاليا. صلح " ويستفاليا"  لا يمنع الصراعات والنزاعات،  وإنما يحصرها في "نطاق معقول"،  يحددها ويحتويها.  بدلاً من النزاعات الدينية المقدسة (الإقطاعية) التي دمرت أوروبا، يتخذ الصراع صورة حروب محدودة من أجل تحقيق المصلحة القومية للدولة (الرأسمالية).
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي انتهكت هذه الاتفاقية، بتحالفها مع فرنسا والحرب ضد بريطانيا 1818م، ومن ثم اعتمادها في السياسة الخارجية "مبدأ مورنو" الشهير الذي يحد من السيطرة الإسبانية على دول أمريكا اللاتينية (المستقلة)، وحين جاء تيودر روزفلت فقد مدد هذا المبدأ، وأعطى أمريكا حق التدخل في شؤون دول أمريكا اللاتينية من أجل الحفاظ على السلام في المنطقة.

فلسفة الاحتواء 
ينظر كيسنجر إلى العالم في شموله كرقعة كبرى على الولايات المتحدة أن تحتويه.  الخسارة في مكان تؤثر في الموقف الاستراتيجي الشامل.  على هذا الأساس،  وجدت أمريكا نفسها تخوض حروباً عدوانية  في كوريا،  ثم فيتنام.      
 يلاحظ كيسنجر أن الولايات المتحدة "دخلت 5 حروب من أجل الحفاظ على النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية".  انتهت هذه الحروب - باستثناء حرب تحرير الكويت-  إلى نتائج  غير حاسمة تراوحت بين التعادل ( الحرب الكورية  1951) ، والانسحاب ( فيتنام،  وأفغانستان،  والعراق).
يرى كيسنجر أن الحروب ضريبة مقبولة للحفاظ على النظام الدولي نفسه، وذلك لأن جنوب شرق آسيا كانت لتسقط في قبضة الشيوعية لولا تدخل الولايات المتحدة في فيتنام.  مع ذلك، يشير كيسنجر إلى أن هذه الحروب جميعاً "انحرفت عند نقطة معينة عن مسارها"، وبالتالي صار مستحيلاً إحراز النصر فيها.  في أفغانستان والعراق، تحولت الحروب - التي يقول كيسنجر إنه أيدها علناً بحسبانها الخيار الصحيح-  إلى مشروعات مستحيلة لإعادة بناء الدول.  جوهر الاستحالة أن "أفغانستان كانت تفتقر إلى أي تراث ديمقراطي"،  بل إلى معنى الدولة ذاته، فتاريخها هو حالة مستمرة من الاحتراب القبلي.  أما العراق،  فلم تكن تربته المشبعة بالطائفية تصلح لأي  غرس ديمقراطي، وجيرانه عمدوا إلى إفشال التجربة بكل سبيل. باختصار  كانت هذه المهام ضرورية، ولكنها اندفعت إلى آفاق مستحيلة.
كيسنجر مؤمن بالدور الأمريكي في العالم.  هو يرى أن الريادة تقتضي الانغماس والاشتباك، لا التراجع والتردد.  وبالتالي، لم ترق له سياسة أوباما الانسحابية من أفغانستان والعراق. يتوجه نظر كيسنجر إلى المراكز التي تشكل - لأسباب مختلفة-  تهديداً للقيادة الأمريكية،  وتحدياً لشرعية النظام العالمي الذي تقوده، ولذلك يفرد قسماً كبيراً من كتابه لمناقشة المعضلة الصينية، والآسيوية بوجه عام.
وبحسب فهم كيسنجر، فإن التحوُّل الذي يشهده النظام العالمي على إيقاع الأحداث الراهنة، والتنافس بين القوى العظمى على قيادة العالم أو أقسام من العالم، أو قيادة النظام العالمي، يجد أساسه في التحول الذي تتعرض له طبيعة الدولة نفسها، باعتبارها الوحدة الأساسية للنظام الدولي. ذلك أن الدولة تتعرض لضغوط من داخلها بسبب تنامي المطالبات الشعبية عليها، وبسبب التنافس الدولي على تحصين المواقع المتقدمة ضمن خرائط النظام العالمي. هذا فضلاً عن أن الاقتصاد العالمي الذي تسارع تطوره نتيجة للمفاعيل الجارية للعولمة، لم يربط نفسه بضرورة مواكبة أي تطور في الهيكل السياسي للعالم. وبالتالي أدت العولمة الاقتصادية إلى تجاوز حدود الدولة القومية والسيادة الوطنية، ومن ثم أصبحت السياسة الخارجية للدول تسعى للتوفيق بين أهداف وطنية/محلية/عالمية متضاربة. 
يرى كيسنجر بأن النظام العالمي لايزال يعيش أزمة عدم التوصل بعد إلى إيجاد آلية عمل فعالة للتشاور بين القوى العظمى. لكن ذلك لا يمنع من القول بأن نظاماً عالمياً جديداً قد شرع يؤسس لنفسه، ولو أن الولايات المتحدة لم تعد تحظى فيه بنفس القوة المركزية التي لم تدم طويلاً بعد نهاية الحرب الباردة. وبات من الضروري عليها أن تراجع أدواتها إذا أرادت مواكبة هذا التحول، ما يجعل كيسنجر ينظر بقدر من التفاؤل إلى سياسة الرئيس باراك أوباما في السنوات الـ6 الأخيرة (قبل 2014 سنة صدور الكتاب). ففي هذه الفترة توجه أوباما نحو البحر الجنوبي للصين، المنطقة الهامة للعالم وفق رؤية كيسنجر، واهتمام أوباما بالصعود الاقتصادي الصيني.
ينتهي كيسنجر إلى أن النظام العالمي الجديد يستحيل أن يكون أحادي القطب، بل ينبغي أن يكون متعدد الأقطاب، مشتركاً بين الولايات المتحدة والصين، إلَّا أن كيسنجر في العام 2018م عاد لينصح ترامب بالانفتاح على روسيا وترك الصينيين، وذلك لأن الصين بدأت تضم جزراً صناعية في بحرها الجنوبي إلى سيادتها، واهتمت أمنياً بالسيطرة على تلك المنطقة، ووضعت لها مكانة خاصة في استراتيجيتها الاقتصادية "الطرق والحزام". 
وفي تحليله للعلاقة بين بلاده والمملكة العربية السعودية، يحمِّل كيسنجر السعودية مسؤولية كبيرة لاعتقادها، ومنذ زمن طويل، بأنها يمكن أن تنجو من الخطر الإسلامي الراديكالي عبر دعم الحركات الإسلامية في الخارج.

كيسنجر داعشي! 
أخطر ما يقوله كيسنجر هو عن سوريا والعراق (لم يكن بعد يعلم بسقوط داعش الذي حدث مؤخراً) إذ يكرر في كتابه، ولو بعبارات ملتوية، ما سبق وردده في غير مناسبة، منها محاضرة له أمام "فورد سكول" في يوليو 2013. قال وقتها إنه يفضل "بلقنة سوريا" على انتصار بشار الأسد أو الجماعات المناهضة له؛ فسوريا، حسب رأيه، كما العراق "ليست دولة تاريخية بل مصطنعة" خلقها الفرنسيون في شكلها الحالي العام 1920، كما فعل البريطانيون وقتها بالنسبة للعراق، بهدف تسهيل السيطرة عليهما لاحقاً. وهاتان الدولتان تضمان قبائل وإثنيات وطوائف مختلفة دخلت اليوم في حرب طاحنة في ما بينها.
وفي رأيه "هناك حسنات من وراء تفتيت هذه الدول إلى دويلات صغيرة، لأنه يمكّن القوى العرقية والمذهبية والأقليات من توكيد نفسها والسيطرة على مناطقها والاستحواذ على حقوقها، ما يفتح المجال أمام دمجها في نظام عالمي جديد". 

الفلسفة الإسلامية للحكم من وجهة نظر كيسنجر 
وفق فهم كيسنجر، يعيش الشرق الأوسط اليوم حالة شبيهة بالحروب الدينية التي خاضتها أوروبا قبل صلح ويستفاليا.  جوهر المعضلة أن الحضارة الإسلامية تحمل نظرة مغايرة لنظام ويستفاليا.  نقطة الانطلاق في التجربة التاريخية الإسلامية لم تكن الدولة، وإنما  مفهوم " دار الإسلام ودار الحرب" ، وفكرة الجهاد المقدس.  و المعاهدات كانت ذات طبيعة مؤقتة، وإلى حين تعديل موازين القوى.  مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ( ركيزة ويستفاليا)  لا معنى له، لأن الولاءات الوطنية انحراف عن الدين، ولأن الحكم القائم في " دار الحرب"  يظل - في نظر المسلمين-  غير شرعي.
وهو هنا يماثل بين الإسلام في هذا العصر والشيوعية في العصر السابق، فكلا النظامين كانا ضد رؤيته للنظام العالمي. 

كيف نظر كيسنجر إلى الربيع العربي 
 يرى كيسنجر في الربيع العربي ظاهرة كشفت تناقضات العالم العربي،  دون أن تقدم حلاً ناجعاً لها.  يعود لأفكاره التقليدية عن فكرة الثورة ومخاطرها.  يتوقف أمام الهتاف الأشهر في ثورات الربيع: " الشعب يريد إسقاط النظام".  يتساءل مجدداً:  ما هو الشعب؟  وما هو النظام الذي يراد وضعه محل النظام القديم؟  يفتح الباب أمام معضلات كبرى أمام السياسة الأمريكية:  هل ينبغي أن تساند الولايات المتحدة أي أو كل انتفاضة شعبية، حتى تلك التي تقع في دول تعد مهمة لاستقرار النظام العالمي؟  هل أية مظاهرات تعد ديمقراطية بالضرورة؟  هل السعودية تظل حليفاً للولايات المتحدة فقط إلى أن تندلع فيها مظاهرات؟  إنها أسئلة كبيرة تحمل في طياتها اتهاما بفشل السياسة الأمريكية في التعاطي مع ظاهرة الربيع العربي.

إيران والسعودية 
يرى كيسنجر بأن السعودية "تخوض صراع وجود حقيقياً في مواجهة الطموحات الإمبراطورية الإيرانية التي تتسربل برداء الثورة الشيعية المقدسة".  وإن إيران "تشكل تهديداً جدياً للنظام الويستفالي"، إذ إنها لاتزال تنظر لنفسها بحسبانها " قضية وهدفاً" ، وليس دولة تتعايش جنباً إلى جنب مع دول أخرى ذات سيادة واستقلال.  "إن إيران الخمينية لا تعترف بالدولة ككيان شرعي، وإنما كسلاح يمكن اللجوء إليه،  وقت الحاجة،  من أجل شن الحرب الدينية المقدسة".

أترك تعليقاً

التعليقات