أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

للشعب الفيتنامي تجربة هامة في «الاقتصاد المقاوم» مثلت الأساس الصلب لتجربتهم العسكرية والسياسية والدبلوماسية. وعطفاً على أبحاثنا السابقة حول التجربة الفيتنامية في الجوانب العسكرية والدبلوماسية، رأينا ضرورة الاطلاع على تجربة الاقتصاد المقاوم في التجربة التاريخية الفيتنامية. وصحيح أنه ليس من الموضوعية نقل تجربة من بلد إلى آخر، ونحن لا نقول بتماثل الأوضاع، إلا أن استلهام السياسات الفيتنامية وتطويرها بما يلائم واقع احتياجنا اليمني في المجال الاقتصادي أمر ممكن، فتجربتهم مُلهمة وواقع حال البلدين يتشابه كثيراً.
استعانت الحكومة الثورية الفيتنامية بالمثقفين والمختصين -على ندرتهم- من أجل وضع خطط وأهداف لبناء القطاع الصناعي والزراعي والتعليمي والنقدي، وحشدوا كل الطاقات من أجل تنفيذ هذه الخطط، وفي زمن قياسي؛ ففي غضون ثلاث سنوات استغنوا عن استيراد المواد الغذائية والملابس، وفي غضون عام حققوا الاستقلال المالي والنقدي. وبالإضافة إلى ذلك استخرجوا عدداً من الخامات وتم الاستفادة منها في الصناعة المدنية والحربية وغيرها. وكل هذه المنجزات قام بها الفيتناميون في ظروف العزلة، حيث إن المساعدة الصينية والسوفييتية كانت لاحقة لهذه المرحلة وكانت عسكرية أكثر من كونها اقتصادية إنتاجية.
وبالمقارنة بين واقع اليمن وفيتنام، نجد أن هناك إمكانيات وفرصاً أكبر بالنسبة لليمن للقيام بعملية البناء الاقتصادي، وفي مقدمة هذه الإمكانيات وجود الكوادر العلمية والمهنية المتخصصة في مختلف المجلات، ووجود طبقة عاملة يمنية مُبدعة وأيدٍ عاملة مثقفة من خريجي الجامعات، بالإضافة إلى ظروف نشاط أكثر حرية. ففي الواقع الفيتنامي كانت المصانع والمدارس تقام في الخنادق، والزراعة مغامرة في ظل وجود المروحيات المعادية التي تحلق فوق القرى وتحرق الحقول.
بدأت في الواقع اليمني ميول ونزعات نحو الإنتاج والتطوير، وما تزال في حدود التوجهات الفردية، سواء الشخصية أم على مستوى منظمات أو سُلطات محلية في محافظات معينة. وإلى جانب هذه النزعات والتوجهات، بما فيها «الرؤية الوطنية لبناء الدولة»، فهناك سياسات وخطوات في التجربة الفيتنامية نفتقر إليها ونحن بأمس الحاجة إلى الاستفادة منها، فيما هناك سياسات فيتنامية قد تجاوزناها في اليمن كمسألة الإنتاج الدفاعي اليمني الذي هو أكثر تقدماً من التجربة الفيتنامية.
في هذه المقاربة نسلط الضوء على التحديات في التجربة الفيتنامية وما يشابهها في الواقع اليمني، وكذلك نستعرض التجربة الفيتنامية في القطاعات الصناعي والزراعي والنقدي، وما يقابلها في الواقع اليمني من حيث التشابه والاختلاف. وعلى ضوء هذه المقارنة ننتهي إلى توصيات عملية لما يفتقره الواقع اليمني ولما يُمكن تطبيقه فيه.

البناء الاقتصادي الثوري الفيتنامي
بدأ الفيتناميون حرب المقاومة الاقتصادية في ظروف أكثر سوءاً من واقعنا اليمني، وكانت عناصره الرئيسية: الدولة، التعاونيات، والقطاع الخاص. القطاعان الأولان وجداً حديثاً، أما الاقتصاد الخاص فقد كان هو الغالب، ولكنه تأثر بالحرب، وكان قد حوصر من قبل الفرنسيين ثم الأمريكان. وعلى الرغم من ذلك حددت الحكومة الثورية سياسة الاكتفاء الذاتي والتزود الذاتي في كل مقاطعة عبر كل البلاد، من أجل أن يستمروا في حرب مقاومة طويلة الأجل. وقد ساعدهم الاقتصاد الخاص لأنه كان الأكبر وهو الجانب الاقتصادي الأقدر في ذلك الوقت.
ولأنهم لم يكونوا يمتلكون قطاعاً صناعياً قوياً، فقد طوروا الصناعة الحرفية من أجل الاستفادة من المواد الخام المحلية للوفاء بالاحتياجات المعيشية والقتالية، وقد شجعوا على فتح الأسواق وإصلاح الطرقات وتطوير المواصلات من أجل توزيع المواد الخام والمنتجات وتحفيز الإنتاج. وقد كانت الأولوية لإنتاج الغذاء. ولقد نادى «هوشي منه» قائلاً: «العمل في الحقول هو القتال في الحقول. الفأس والمحراث هي الأسلحة. المزارعون يصنعون المقاتلين. المناطق الخلفية تدعم الخطوط الأمامية».
حاول العدو الفرنسي الأمريكي إفساد قاعدة صناعة وحرف فيتنام، وكانت سياسة الفيتناميين إقامة إنتاج على مستوى صغير وموزع من أجل حمايته من القصف ومن أجل سهولة توزيع البضائع من مناطق متفرقة وليس من منطقة مركزية، وقد وزعوا تدريجياً قواعد اقتصاد الدولة وأقاموا أول أساس التعاونيات الاقتصادية.
وإلى جانب النشاط الاقتصادي، دخلوا في برنامج تعليمي لمحو الأمية ورفع مستوى التعليم في البلاد، كما تصدوا لمهمة نزع السياسة النقدية من اليد الفرنسية، عبر إيجاد عملة محلية وطباعة أوراق نقدية فيتنامية وتعميمها على كل البلاد. فإلى ذلك الحين لم يكن هناك عملة فيتنامية، بل عملة دول الهند الشرقية التي طبعتها فرنسا في مستعمراتها.

التحديات في التجربة الفيتنامية وما يشابهها في الواقع اليمني
الواقع الفيتنامي:
ـ بلد متخلف صناعياً، وإنتاجه الزراعي بدائي غير ميكانيكي.
ـ الجهل والأمية، ونقص الكوادر العلمية والفنية المهنية.
ـ تدمير العدو للبنية التحتية وللمصانع والمزارع والمدن.
ـ حصار البلاد والسيطرة على الموانئ، وضرب شبكة الطرقات في البلاد.
ـ نزوح المجتمعات المحلية وابتعادها عن حقول إنتاجها الزراعي والصناعي والسمكي.
ـ سيطرة العدو على السياسة المالية النقدية.

الواقع اليمني:
ـ بلد متخلف صناعياً، وإنتاجه الزراعي بدائي غير ميكانيكي.
ـ مستوى الجهل والأمية في اليمن أقل من فيتنام، والكوادر في اليمن أكثر مما لدى فيتنام.
ـ ما دمره العدوان في اليمن أقل نسبياً مما دمره العدو في فيتنام.
ـ يكاد يتماثل الحصار، إلا أن شبكة الطرقات في اليمن أكثر تعافياً.
ـ نزوح أبناء الحديدة وصعدة في الحالة اليمنية.
ـ نقل البنك المركزي واستيلاء الحكومة العميلة على حق طبع العملة وقيامها بهذه العملية.

تحديات القطاع الزراعي 
في التجربة الفيتنامية والواقع اليمني
التجربة الفيتنامية:
- تم العمل في أرض الحكومة المستصلحة وتخفيض إيجاراتها، وفوائد القروض توزع على الفلاحين الفقراء مع منح القروض للفلاحين من أجل زيادة الإنتاج، وهذا أدى إلى حماس كبير للفلاحين في المناطق المحررة.
- اهتمت الحكومة بإصلاح الخنادق وأعمال الزراعة وإشاعة طرق الزراعة الجماعية كعملية المياه واختيار البذور والسماد... الشيء الذي ساعد على الاستقرار وزيادة الإنتاج، ولقد شجع كل الناس لزيادة محصول غذائهم وكسائهم.
- تأسست لجان الاكتفاء الذاتي في كل مكان، وخصصت الوحدات العسكرية وموظفو الحكومة والمدارس والمصانع الكثير من الوقت لإنتاج الغذاء.
- تم تشجيع زراعة القطن وإنتاج الحرير وصناعة الخيوط والنسيج اليدوي، وقد تطورت هذه وحلت نسبياً مسألة الملابس.

الواقع اليمني:
- هناك حالات فردية ومبادرات شخصية ولسلطات محلية في محافظات أو لمنظمات، لا توجهات رسمية، للاستفادة من أراضي الأوقاف، أو استصلاح أراض جديدة. لا يوجد قروض للمزارعين. ولا يُمكن القول بأن السياسات الرسمية استطاعت تحفيز المزارعين في كل المحافظات المحررة للإنتاج.
- لا توجد جهود حكومية داعمة لمسار البناء والاستصلاح، ولا لتحويل الإنتاج الفردي إلى إنتاج جماعي عبر تنظيم الفلاحين في جمعيات. 
- حتى الوقت الراهن، لا يوجد أي تحرك نحو تنظيم جهود الفلاحين والمزارعين في لجان شعبية أو حكومية أو تعاونية. ولأن مثل هذه العملية لم تبدأ فلم يُرفد الفلاحون بجنود وموظفين حكوميين وطلاب مدارس لمعاونتهم في الإنتاج.
- توقف إنتاج القطن في اليمن، على الرغم أن بالإمكان الاستفادة صناعيا من هذا الإنتاج الزراعي عبر صيانة وتشغيل مصنع الغزل والنسيج الموجود في العاصمة صنعاء.

التحديات الصناعية 
في التجربة الفيتنامية والواقع اليمني
- في فيتنام، وخلال الأيام الأولى من حرب المقاومة، عقدت الحكومة لقاءات مع المثقفين والمهندسين، من أجل بحث كيفية تطوير الصناعة الوطنية. بينما في اليمن فقد تمت عملية الاستفادة من الكوادر في اليمن في إطار بناء وثيقة الرؤية الوطنية.
- في فيتنام أُلحق فيما بعد عدد من المثقفين والمهندسين بعملية إنتاج السلاح، وقد ساهموا بفاعلية في إنتاج الأسلحة للجيش بتسارع مع القفزة إلى الأمام في صناعة الدفاع الوطني، والصناعات الأخرى أيضاً ساهمت في الاحتياجات الدفاعية الوطنية.
أما في اليمن ففيما يتعلق بالصناعات الحربية فقد بدأت في واقعنا من قبل التفكير في الرؤية الوطنية، ويبدو أنه تم الاستفادة من المهندسين والمختصين. أما في واقع الإنتاج المدني فلم تبدأ مرحلة إقامة منشآت جديدة، أو تفعيل منشآت قديمة.

أترك تعليقاً

التعليقات