أنس القاضي

أنس القاضي / #لا_ميديا -

منذ مطلع العام 2019م، شهوراً حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تغيير المعادلة في العراق والعودة بها إلى ما قبل الانتصار على «داعش» وظهور قوى المقاومة «الحشد الشعبي»، وظهور حكومة ذات ميولات وطنية واستقلالية وتوجهات سياسية بعيداً عن المحور الأمريكي. ابتدأت هذه المؤامرات العملية بالثورة الملونة وانتهت باغتيال سُليماني والمهندس، إلا أنها لم تُغير من حقيقة تراجع النفوذ الأمريكي في العراق لصالح التوجهات الوطنية ومحور المقاومة.
جاءت الثورة الملونة في العراق تعبيراً عن هذا النشاط الأمريكي المعادي الذي استغل قضايا عادلة وجهها نحو الوجود العراق المقاوم ونحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومع تصاعد الخطاب المعادي لمحور المقاومة وفصائلها بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ الجانب العسكري من خطتها، وذلك باستهداف مواقع الحشد الشعبي.
استهداف الحشد الشعبي جاء بنتائج معاكسة لما كانت ترغب فيه الولايات المتحدة الأمريكية، حيث وجدتها القوى الوطنية المقاومة فرصة للرد جماهيرياً على المؤامرة الأمريكية، فاتجهت الجماهير العراقية نحو السفارة الأمريكية وحاولت اقتحامها وإحراقها، وهو ما سبب ضرراً بالغاً بالهيبة الأمنية والسياسية الأمريكية، ما دفع ترامب إلى اتخاذ قرار استهداف سُليماني والمهندس، إلى جانب متطلبات سياسية داخلية أخرى دفعت ترامب إلى اتخاذ مثل هذا القرار الأحمق. 
كانت الحسابات السطحية لترامب وإدارته تقتضي أنه بمجرد ضرب «رأس الأفعى» فإن الأمور ستهدأ والاحتجاجات الشعبية ستتضاءل ويرحل المعتصمون عن محيط السفارة ويضربون عن المطالبة بإخراج القوات الأمريكية من العراق بعد رحيل سليماني، مجدداً تأتي الحسابات الخاطئة لتقدم دليلاً جديداً على الفشل المستمر لإدارة ترامب الإجرامية. 
بقدر ما كانت جريمة اغتيال اللواء قاسم سليماني مؤلمة لإيران، فقد عمل العقل الإيراني على توظيف الحادثة إلى أقصى حد ممكن، تمثل ذلك في استطاعة الإيراني أن يستغل الجريمة في توحيد الجبهة الداخلية، وأن يوحد الشعبين العراقي والإيراني اللذين عملت واشنطن على إيجاد شرخ بينهما، كما رسم الإيراني لنفسه هدفاً استراتيجياً، وهو إخراج القوات الأمريكية من المنطقة.
الصراع الجيوبولتيكي الأمريكي الإيراني هو الذي يحدد في نهاية المطاف طبيعة الرد، ففيما تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نفسها صاحبة الحق الشرعي في الهيمنة على العراق، ترى إيران أنها الدولة صاحبة الأولوية بحكم الجوار والعلاقات الثقافية في أن يكون لها حضور داخل العراق، وهو ما يتصادم مع الوجود العسكري الاحتلالي الأمريكي فيه.
الهجوم الصاروخي للحرس الثوري الإيراني على قاعدة عين الأسد الأمريكية بالعراق، كرد أولي، تم بعلم الحكومة والقوات المسلحة العراقية، فقد راعت إيران سيادة العراق، استهدفت القاعدة الأمريكية التي استغلتها واشنطن لشن هجومها الذي استهدف سليماني ورفاقه، إلى جانب أنها تقنياً قاعدة عسكرية هامة بالنسبة للولايات المتحدة. 
أظهرت الضربة الإيرانية لـ«عين الأسد» أن ترامب لا يُريد استخدام قُدرات بلاده الضّخمة وجيشها الكبير في الرّد على هذه الضّربة الإيرانيّة، لأنه بات يُدرك أنّ الرّد يعني الرّد المُضاد، وعدم قتل أمريكان في المرّة الأولى، إذا صح، ربّما يتغير في الضّربة الثانية، ومن أبرز دلالات الرد الإيراني هي أنه أظهر أن القِيادة الإيرانيّة قادرةٌ على اتّخاذ القرار لاستهداف أكبر القواعد الأمريكيّة في العِراق دون تردّد. كما أنه يُعد أول هجوم صاروخي (صواريخ باليستية) مباشر وعلني من دولة ضد الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى أن دقة هذه الصواريخ في إصابة أهدافها تمثل رسالة مهمة لتل أبيب وحلفاء أمريكا في المنطقة. 
حتى الوقت الراهن فالرد الإيراني هو القوي، والتراجع الأمريكي يلاحظ في عدم الرد والاكتفاء بالتهوين من شأن الخسائر التي مُنيت بها الولايات المتحدة. وهذا يدل على خشية أمريكا من التورط في صراع تدفع فيه ثمنا باهظا هي وحلفاؤها.
في زخم التهديدات التي أطلقها العسكريون الإيرانيون، أرسلت وزارة الخارجية الإيرانية رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تقول فيها بأن إيران غير معنية بالتصعيد، ولكنها حاضرة وبقوة للدفاع عن أراضيها في حال التعدّي عليها.
دفن الجنرال سليماني مباشرة بعد الضربة يؤكد أن إيران اكتفت بشكل مبدئي بهذا الرد. وهذا الرد يتألف من قسمين؛ الأول مباشر وآني، وهو ضرب القواعد الأمريكية في العراق، وقد تم. أما الرد الثاني فهو بعيد المدى واستراتيجي، ويتمثل في إخراج القوات الأمريكية من العراق كخطوة أولى، ومن ثم إخراجها من المنطقة كخطوة ثانية.

الصراع الأمريكي الإيراني يحدد طبيعة الرد
هناك صراع نفوذ ومصالح جيوبوليتيكية، فأمريكا تعتبر نفسها المالك الشرعي للعراق بحكم أنها صاحبة عملية غزو العراق، وصاحبة الهيمنة التي لاتنازع على الأنظمة الحاكمة في معظم دول المنطقة. المشكلة بالنسبة لأمريكا أن المستفيد الأول من غزوها للعراق، وتحطيم قوته والقضاء على جيشه ومؤسساته الوطنية، كانت إيران التي استفادت من الجوار الجغرافي والقرابة المذهبية مع غالبية سكانه، بل إن الحكام الجدد في العراق الذين جاؤوا على فوهات المدافع الأمريكية، يدين معظمهم بالولاء لإيران، وبعضهم يحمل جنسيتها.

طبيعة الرد الإيراني
الهجوم الصاروخي للحرس الثوري الإيراني، كرد أولي، كان محدودا على قاعدة عين الأسد الأمريكية بالعراق، تم بعلم الحكومة والقوات المسلحة العراقية، واستهدف بشكل دقيق القاعدة الأمريكية التي استغلتها واشنطن لشن هجومها الذي استهدف سليماني ورفاقه. 
انطلاق الصواريخ الإيرانية تم في التوقيت نفسه لاغتيال قاسم سليماني والمهندس، أي الساعة 1:20 دقيقة فجراً.
الرد جاء مباشراً وبتوقيع إيراني، ومس المصالح الأمريكية بشكل مباشر لا لبس فيه.
لم يتم استهداف القواعد الأمريكية في منطقة الخليج، نظرا لأن الرد استهدف قاعدة «عين الأسد» العسكرية التي استخدمها الأمريكيون لاغتيال سليماني ورفاقه.
وتُعد قاعدة «عين الأسد» ثاني أكبر القواعد الجوية في العراق، وتضم بداخلها عدداً من المعدات العسكرية الأمريكية، من ضمنها طائرات بدون طيار من نفس نوع الطائرة المسيرة التي استخدمت في استهداف سليماني.
حتى لو افترضنا أن الصّواريخ الإيرانية لم تقتل أي أمريكي في القاعدة المذكورة، فإن ترامب لم يُنكِر مُطلقاً أنها أصابت هذه القاعدة ودمّرت مُنشآتها.
اعترفت أمريكا اعترافاً جزئيا بإصابة 11 جندياً أمريكياً بارتجاج في الدماغ، وهو نوع واحد لإصابات مختلفة طالت الجنود الأمريكيين، ما يعني إخفاء إصابات من نوع آخر.

دلالات الضربة
من الدلالات الرمزية للضربة، أنها تحمل معنى الثأر والردع والقصاص لما اعتبرته إيران مساسا بكرامتها الوطنية. كما أن الضربة أثبتت أن القِيادة الإيرانية قادرة على اتخاذ القرار بإطلاق الصواريخ على أكبر القواعد الأمريكيّة في العِراق، دون تردد، وتمتلك صواريخ دقيقة في إصابة أهدافها.
أوصلت الضربة رسالة لروسيا والصين بأن إيران حليف يمكن الاعتِماد عليه. وتعد الضربة أول هجوم صاروخي (باليستي) مباشر وعلني من دولة ضد الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ولم تُقدم عليها أقوى قوة عسكرية مثل روسيا. ودقة هذه الصواريخ في إصابة أهدافها رسالة مهمة للكيان الصهيوني.

خطاب خامنئي
ـ «خامنئي» أشار إلى أن هذا الرد صفعة قوية للولايات المتحدة، ولكنه ليس كافيا.
ـ حدد مهمة ووظيفة الشعب الإيراني، وخص قسما مهما من كلمته حول تحديد عدوهم.
ـ للمكان الذي اختاره خامنئي لإلقاء الخطبة رمزية خاصة، حيث اختار نفس الحسينية التي كان يخطب بها قائد الثورة «الخميني».
ـ كلمة خامنئي تضمنت العديد من المصطلحات الدينية التي استخدمت أيام الثورة الإسلامية.
ـ الشعارات التي كانت معلقة على الجدران والتي تضمنت عبارات حول الجهاد وغيرها من الشعارات التي تم استخدامها في الخطاب الثوري الأول عام 1979.
ـ وجه رسالة مهمة للداخل والمعارضة الإيرانية، عندما وصف من يريد إثارة البلبلة (الاحتجاج) في الداخل بأنه يلعب في الملعب الأمريكي. وحذر بأن إيران ستتعامل بحزم في هذا الموضوع.
ـ انتقد خامنئي مواقف فرنسا وبريطانيا وألمانيا من بلاده، وقال إنها تخدم مصالح الولايات المتحدة، وهددت بإحالة الملف النووي الإيراني لمجلس الأمن.
ـ دعا الإيرانيين إلى وحدة الصف الوطني والإقبال بكثافة على الانتخابات المقررة في فبراير القادم، دعما لأركان الجمهورية الإسلامية في مواجهة التحديات.

الصمت الأمريكي
حتى الوقت الراهن فالرد الإيراني هو القوي، والتراجع الأمريكي يلاحظ في عدم الرد باستهداف الأهداف الـ52 التي أعلنها ترامب سابقاً، والاكتفاء بالتهوين من شأن الخسائر التي ألحقتها. وهذا يدل على خشية أمريكا من التورط في صراع تدفع فيه ثمنا باهظا هي وحلفاؤها، وفي مقدمتهم إسرائيل وممالك الخليج.
بدا أن القواعد الأمريكية المترامية في أرجاء المنطقة بمثابة رهائن وبنك أهداف لدى الصواريخ الإيرانية بأكثر من كونها قوة ردع وتدمير. وهذا يدل على تراجع القوة والنفوذ الأمريكي على الصعيد العالمي لصالح قوى جديدة إقليمياً، ومنها إيران وتركيا، ودولياً كروسيا والصين.

مستقبل الرد
دفن الجنرال سليماني مباشرة بعد الضربة يؤكد أن إيران اكتفت بشكل مبدئي بهذا الرد.
إيران ليست معنية بالتصعيد، ففي زخم التهديدات التي أطلقها العسكريون الإيرانيون أرسلت وزارة الخارجية الإيرانية رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ورد فيها أن إيران غير معنية بالتصعيد، ولا تبحث عن حرب، فضلا عن تغريدة لوزير الخارجية جواد ظريف، ذكر فيها أن إيران ردت ردا متناسبا مع عملية الاغتيال، ولا تسعى للتصعيد، ولكنها حاضرة وبقوة للدفاع عن أراضيها في حال التعدّي عليها.
الرد يتألف من قسمين، الأول مباشر وآني، وهو ضرب القواعد الأمريكية في العراق، وقد تم. وأما الرد الثاني فهو بعيد المدى واستراتيجي كرره المسؤولون الإيرانيون من المرشد الأعلى إلى الرئيس الإيراني وجميع الضباط الكبار في الحرس الثوري والجيش الإيراني: وهو إخراج القوات الأمريكية من العراق كخطوة أولى، ومن ثم إخراجها من المنطقة كخطوة ثانية.

أترك تعليقاً

التعليقات