محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
كثر الحديث في الآونة الأخيرة وباندفاع محموم أيضاً من قبل بعض زملاء الكفاح من قادة المهمشين صوب الترويج لصوابية فكرة تأسيس حزب سياسي ذي نزعة طبقية وعرقية لقيادة آمال المهمشين.
وأمر كهذا يشوبه الكثير من القصور من وجهة نظري فيما يخص فهم أصحابنا من قادة الفئة وإدراكهم الفلسفي لطبيعة الواقع الموضوعي المتعلق بكفاحنا الطبقي معشر "الأخدام" و"المهمشين"، وبمعضلتنا العرقية وتعقيداتها الاجتماعية والثقافية التاريخية الموروثة والمتوارثة جيلاً بعد جيل على امتداد التاريخ العبودي الآثم في بلادنا.
إن السؤال الذي من الطبيعي أن ينشأ بإلحاح في هذه الحالة وفي أذهان العديدين طبعاً من داخل فئاتنا المهمشة ومن خارجها أيضاً، لا بد أن يتمحور بشكل أساسي ليس فحسب حول ما إذا كان تأطير المهمشين في سياق حزب سياسي طبقي خاص بهم سيكون كفيلاً بتحقيق ولو جزء ضئيل من تطلعاتهم الطبقية، وفي اكتساب حقوقهم المدنية والإنسانية واستعادة آدميتهم المستلبة والمسحوقة، وإنما أيضاً حول مسألة في غاية الأهمية تتمثل في ما إذا كانت الهوية الحزبية ستسهم في تكوين وانتزاع شكل من أشكال الاعتراف الوطني الجمعي بواقع المعضلة العنصرية في بلادنا، بما سيترتب عليه هذا الاعتراف من تسديد للدين الاجتماعي والوطني التاريخي الثقيل المستحق لفئاتنا وأجيالنا المتلاحقة جراء قرون العزل والاستبداد الطويلة والمظلمة... إلخ.
بالنسبة لي، فإن ردي على هذا السؤال سيتمحور بكل تأكيد حول رفض الفكرة من أساسها (فكرة المضي في مشروع تأسيس حزب سياسي للمهمشين) انطلاقا من قناعتي الشخصية ربما والمصقولة بتجربة طويلة ومستمرة من الكفاح السياسي والجماهيري والمدني لما يقرب من أربعة عقود زمنية ماضية، في أن فكرة كتلك لن تكون نتائجها مثمرة أو حتى إيجابية، سواءً على صعيد تأصيل وتقدم حركة الكفاح السياسي والجماهيري والمدني لفئاتنا المسحوقة والمهمشة "طبقة أخدام اليمن"، أو على صعيد امتلاكنا لقدرة التأثير الفعلي لتغيير وعي وعقلية هذا المجتمع وترويضه للقبول والاعتراف بشراكتنا الاجتماعية وبسويتنا وآدميتنا الإنسانية غير المعترف بها في الأصل، وذلك لأسباب عدة ومختلفة بالطبع، لعل أبرزها تكمن في انعدام توافر الشروط التكوينية السليمة والمطلوبة لإنجاح مسعانا التحزبي.
فلتأمين شروط ومقومات النجاح التأسيسي والحركي لأي حزب أو حركة سياسية ناشئة فإنه ينبغي في البدء توافر قاعدة طليعية واعية ومنظمة ومؤهلة من النواحي الفكرية والثقافية والعلمية للإلمام بمهمات الكفاح السياسي والجماهيري الشعبي وقيادته بصورة مثمرة ومظفرة، وأمر كهذا يكاد يكون توافره مستحيلا في محيط فئاتنا المهمشة، جراء استفحال مظاهر الأمية السياسية والمعرفية والعلمية المتوارثة في محيطنا جيلا بعد جيل.
وإذا ما أضفنا إليها مسألة غياب البيئة والأرضية التقدمية والحضارية والفكرية الحاضنة والملائمة للتطور المثمر لسير العمل الحزبي والسياسي والحركي بصفة عامة وعلى الصعيد الوطني ككل، فإن النتائج ستكون مزدوجة من حيث بعدها الكارثي والعقيم.
إن الإمعان بموضوعية تحليلية فاحصة في عمق المحتوى الاجتماعي والتاريخي للحركات والميول السياسية المختلفة التي نشـأت في بلادنا، وفي "مجتمع القبائل تحديداً"، ستبين لنا بوضوح حجم القصور البنائي والأيديولوجي والنظري الذي يعتريه، ومايزال أغلب أطراف ومكونات العملية السياسية والحركية والحزبية في بلادنا بالنظر إلى حجم المأزق النظري والأخلاقي المعشعش في بنيانها، جراء طغيان التقاليد والعصبيات السلالية والقبلية بالصورة التي جعلت مجمل أطراف منظومة العمل الحزبي والسياسي والحركي، وعلى امتداد تاريخها الوجودي، عالقة في هذا المستنقع الماضوي ومنتجة رئيسية لعوامل التخلف السياسي، بحيث مايزال كل شيء متوارثاً، بدءاً من سلطات الشيخ القبلي التي يرثها في العادة أكبر أبنائه مرورا بالزعامات الحزبية، فزعيم الحزب يورث منصبه لنجله، وكذلك الوزير وقاضي المحكمة وعاقل الحارة ورئيس الجمهورية و… و… و… إلخ.
الأمر الذي لاتزال على أساسه مسألة احترام التقاليد والممارسات القانونية والتشريعية والدستورية والتعاطي معها بإيجابية في بلادنا مجرد وجهة نظر ليس إلا، وليست خيارا تطبيقيا بمضمونه التقدمي الخلاق على المستوى السياسي والحركي والوطني، بدليل أن مجمل أطراف منظومة العمل الحزبي والسياسي وبمختلف اتجاهاتها وتكويناتها لاتزال غارقة بعد ستة عقود كاملة على الثورتين سبتمبر وأكتوبر في مشاريعها الاحترابية، وعاجزة كلياً حتى عن الاتفاق حتى اللحظة على شكل ومضمون ومسمى الدولة ككيان حاضن لكل أبنائه وطوائفه... إلخ.
فيما السبب الآخر والأبرز أيضاً -وربما الأكثر كارثية من حيث نتائجه المحتملة على صعيد ومستقبل كفاحنا كمهمشين، في حال غامرنا بتأسيس حزب سياسي طبقي عرقي خاص بنا- سيكمن في احتمالية فقداننا كمهمشين -وهذا مؤكد- لمضمون التعاطف الإنساني داخلياً وخارجياً، كما أنه سينعكس سلبا بالتأكيد على قدرتنا مستقبلاً على الاستفادة من الدعم والتعاطف الإنساني الخارجي الذي سيتضاءل بالتأكيد من منطلق أننا بتنا نتمتع بحقوقنا السياسية والمدنية كوننا أصبحنا جزءاً من العملية السياسية والحركية في البلاد، ولسنا طبقة مسحوقة ومهمشة تكافح لنيل أبسط شروط العدالة والمساواة والمواطنة المتكافئة.
إن منظومة "الأبارتهيد" الشعبي العنصري هو أحد معطيات الواقع الاجتماعي والثقافي التاريخي الموروث الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار، في تفكيرنا الكفاحي، ليس فحسب من حيث كون هذا المنحى لن يمنحنا أي فرصة لنصبح جزءاً من طليعة هذا الشعب، كوننا سنظل كما عشنا محتقرين وعاجزين عن كسب هذا السند الشعبي -المتحالف تاريخياً وبمختلف تكويناته وطوائفه ضدنا- إلى صفنا.
وبالتالي، فإن نضالنا كمهمشين ينبغي أن ينطلق بالدرجة الأساس من طبيعة فهمنا وتعريفنا الجدلي والنظري والأخلاقي الدقيق والواعي للب معضلاتنا التاريخية الشائكة والمعقدة، وليس من منظور طموحاتنا السياسية الوقتية، مثلما ينبغي أن ينطلق أيضاً من طبيعة فهمنا للكيفية التي يتم التعامل عبرها مع ذكريات أهوال العبودية في مجتمعنا اليمني الغارق في بربريته حتى أخمص قدميه، وهذا أمر بالغ الأهمية، للإجابة على السؤال الذي لايزال يلح في مخيلتنا، والمتمثل في ما إذا كان عقل الاستعباد لايزال موجوداً في الوعي المجتمعي أم تم التخلص منه؟! وما إذا كان قد جرى فعلياً الاعتراف بالذنب التاريخي على الصعيد الوطني تجاه المستعبدين، أم تم التخلي عن ذلك بسلسلة من القوانين التي بقي معظمها معطلا وخارج نطاق الفاعلية التطبيقية منذ أن تم سنها وإقرارها؟!
هذا هو الواقع الذي يتعين علينا إزاءه، ويتعين على رفاقنا من قادة المهمشين أن يدركوا أن المهمات الأساسية لكفاحنا الحقوقي والجماهيري والمدني لا تتعلق البتة بمنح فئاتنا المهمشة على سبيل المثال حقوق التصويت والمشاركة السياسية والانتخابية، كون هذا الحق موجوداً أصلا، وإن كان يجير ويوجه في الأساس لمصلحة تعزيز نفوذ القوى الاستبداية ذاتها، بقدر ما يتعلق (أي كفاحنا) -وبالدرجة الأساس- بالسعي لإلغاء نتائج وموروثات "الأبارتهيد"، الفصل العنصري المعشعش في كل مفاصل حياتنا اليومية، والعمل على اكتساب كامل حقوق مواطنتنا المستلبة واستعادة آدميتنا غير المعترف بها أصلا من قبل أغلب القوى الاجتماعية والطبقية... إلخ. وأمر كهذا لا يمكن الحصول عليه أو انتزاعه عبر تأسيسنا لحزب سياسي طبقي، وإنما عبر قيامنا بشن حالة من الكفاح الحقوقي والمدني العارم والمثابر لإدانة هذا المجتمع اليمني البربري بكل فئاته وطوائفه ونخبه السياسية والاجتماعية الاستبداية المختلفة، ولفت نظر العالم أجمع لبشاعة المعضلة العنصرية بأبعادها الإقصائية والإلغائية القسرية التي نتجرعها جيلا بعد جيل.
كما أن نضالنا كمهمشين لا يمكن اعتباره مجرد إطار لفكر فلسفي معين، بقدر ما ينبغي أن يستوحى من طبيعة واقعنا التاريخي المعاش والموروث في محيط اجتماعي لا يزال يشرعن لاغتصاب إناثنا المهمشات باعتباره حقاً سيادياً تفوقياً من منظور إيمانه بالمثل الشعبي القائل: "الخادمة حلاوة سيدها"، ما يعني أن ثورتنا كمهمشين ينبغي ألا تتوقف أو تنتهي إلا بتصفية المجتمع الطبقي تصفية تامة، حتى ولو اضطررنا إلى استخدام وسائل الكفاح المقاوم والعنيف عبر تنظيم أذرع حمائية شبه مقاتلة للدفاع عن كياننا وعن وجودنا الطبقي وحماية فئاتنا وتجمعاتنا الطبقية.
وخطوة كتلك تعد جوهرية من وجهة نظري ومجدية أكثر بكثير من مغبة انخراطنا كطبقة مهمشة ومسحوقة ومستعبدة في نضال حزبي وسياسي عقيم وفي محيط اجتماعي يفوق من حيث طبيعته البربرية نمط تكوينه التراتبي الماضوي الموروث، والذي يختلف بشكل كلي من حيث نمطه وتركيبته المتبلدة عن باقي المجتمعات التي شهدت تناحرات طبقية في مختلف بقاع الأرض، حيث انحصرت المسائل الخلافية التي نشبت في سياق المجتمعات الأخرى ما بين معسكرين رئيسيين أو لنقل بين طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة، هما: البرجوازية والبروليتاريا، أو بين طبقة إقطاعية سلطوية مهيمنة وطبقة اجتماعية مسحوقة وموحدة، وذلك خلافا لما هو سائد ومكرس ومتوارث في بلادنا وفي مجتمعنا اليمني بالنظر إلى عقم وعبثية تراتبيته الطبقية الحادة التي تبدأ من حواف طبقة القبائل التي تتربع عرش الهرم الاجتماعي مرورا بطبقات التجار ثم المزارعين والحرفيين والمزاينة والعبيد والأحجور وصولاً إلى طبقة "الأخدام" التي تقف في أدنى الهرم الاجتماعي.
وبالتالي، فإن جميع تلك الطبقات تتفق تاريخيا حول مسألة واحدة فقط، وهي الاستعباد المشاعي لطبقة "الأخدام" وقهرها ومنعها من التمتع بأي من حقوق وامتيازات المواطنة، ومن تملك أدوات الإنتاج والتطور الطبيعي الإنساني، الأمر الذي يضعنا في مجابهة مفصلية وغير متكافئة مع كل فئات وطوائف المجتمع اليمني دون استثناء.


 الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن- رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات