محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
لم يكن يشكو من علل بدنية قاتلة، مثلما لم يكن يعاني من إجهاد الشيخوخة، التي نجح في تحييدها حقا، بحكم صداقتي الشخصية المتينة به ومعرفتي الوثيقة بمختلف ظروفه، باستثناء العلل النفسية التي لم يفلح على ما يبدو في طيها وهو يرى مدى الانحدار الذي بلغه وطن منحه المسّاح كل توقه وعشقه وولائه وإبداعاته منذ بدأت مداركه السياسية والأدبية في التفتح مع انبلاج عصر ثورة سبتمبر الأم 1962، التي وعدته كالآخرين أيضا بميلاد جديد ظل ينتظره وفي مختلف الحقب المتعاقبة دون جدوى.
نهار الأربعاء الفائت، وقبل يومين تحديداً من وفاته، زارني (رحمته المشيئة) في مخبئي بمنطقة العزاعز، حيث لا أزال وعلى مدى الأربعة الأشهر الماضية طريد عدالة الخونج المروعة في الشمايتين، وسألني بانكسار عميق بما معناه: كم أن حياتنا باتت سوداوية إلى درجة عدم اليقين بانعتاقها من حواصل هذا الضلال المطبق عليها؟!
ما الذي دهانا يا أستاذ محمد؟! كيف أمكن لنا (ويقصد القوى الوطنية) بعد كل المشاق والتضحيات التي قدمناها وبعد كل المنعطفات التي مررنا بها في حياتنا أن ننتكس إلى هذا المستوى من الضعة والانحدار، حتى بات الوطن مجرد يافطة للمزايدات، وبات الانتماء إليه نوعا من الشقاء الذي لا نحبذه؟!
كنا نحسد أنفسنا على الآمال الطاغية التي صغناها لأبنائنا وأحفادنا كي يعيشوا في وطن يموج بالعز والكفاف والكبرياء، لينتهي بنا المطاف إلى تسليمه وبالمجان لتلك القوى المفحمة بالجور والكراهية، والتي كافحنا طويلا لتقويمها دون جدوى!
كيف أمكن لنا التفريط بكل هذا؟! وكيف أمكن لنا أن نفقد الأمل الذي ظفرنا به بعد عناء وأنهار من الدم سالت على محراب هذا الأمل المنطفئ على ما يبدو إلى أبد الآبدين؟!... ثم اختتم قائلا: هل تصدق يا أخ محمد أن التكرار المنتظم لهذه الأصوات الموغلة في الفوضى والتوحش من حولنا والمشحونة بصرخات التكبير الهوجاء تشعرني بأننا لن نقوى على التعافي مجددا من مصابنا؟!
كنت أنا على يقين أيضا بأن الأستاذ محمد المسّاح، الذي ألهمنا لعقود طويلة ماضية من خلال لحظاته الزمنية في صحيفة «الثورة»، سيكون هو أكثرنا من حيث الافتقار للقدرة على الخلاص الفعلي جراء التمزق النفسي والعاطفي العميق، الذي داهمه خلال الأربع السنوات ونيف التي خلت، كمدا على ابنه وفلذة كبده «سامح»، الذي غادر منزل والده الريفي والبسيط في قرية العزاعز عام 2019 ولم يعد حتى اللحظة، مثلما لم يعرف مصيره أيضا، لتضيف الشائعات المتعددة -تارة حول مقتله في الحرب، وحول وقوعه في الأسر تارة أخرى- إلى معاناة والده النفسية المزيد من الحسرة والتمزق والانكسار الذي تعاظم بتعاظم تلك الشائعات التي عمقت يقين المسّاح ألا قدرة على الأمل والخلاص مجددا!
لقد تلاشى «سامح» من حياة والديه كما تلاشى الوطن أيضاً في غمضة عين، كما اخبرني ذات مرة في إحدى رسائله صاغها بخط يده على شكل مرثية لولده المفقود، والتي سأرفقها بهذه المادة التي آمل من الزملاء في هيئة التحرير نشرها أيضا كما هي. أخبرني فيها أن «سامح ذهب للنوم قبل أوانه؛ لكن طيفه هو الذي بات يؤرقني أكثر من غيابه، جراء الحسرة والألم الذي يمزقني من الداخل، جراء فقدي لشيئين أحببتهما بكل جوانحي: الوطن وولدي».
في النهاية، فإن أكثر ما هالني هو ذلك الهدوء الذي رحل به المسّاح عن عالمنا! كانت لحظة وجيزة جدا هي الفاصلة ما بين عنفوانه وارتخاء بدنه المفاجئ إثر موته الذي داهمه بغتة معلناً ولوج هذا الكهل الذي ألهمنا دوما بإبداعاته إلى محراب الخلود الذي يستحقه والرحمة تغشاه.

أترك تعليقاً

التعليقات