محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
في بادرة شجاعة ونادرة وموضوعية أيضاً، تناولت صحيفة "لا" في عددها رقم (702) الصادر يوم الثلاثاء 22 يونيو الماضي، موضوعا استقصائيا بعنوان "تعز.. مدينتان.. محتلة ومختلة"، قدمت من خلاله صورة موضوعية دقيقة عن حجم الفوضى والفساد المعشعش في بعض أهم مفاصل هيئات الحكم التنفيذي في محافظة تعز، وبدرجة تشير بوضوح ربما إلى حجم الاختراق الرجعي الذي قد يكون شاب فعليا مفاصل العملية الثورية برمتها هناك.
وفي رأيي لو أن الزملاء في الصحيفة كانوا قد توسعوا أكثر في تحقيقهم الاستقصائي ذاك لصادفهم العجب حقا، ولباتت تلك الواقعة التي تضمنها تقريرهم ضئيلة للغاية قياسا بما هو حاصل فعليا على أرض الواقع من فوضى وفساد وتردٍّ ثوري لا يمكن التنبوء بآثاره ونتائجه على المدى الزمني الطويل.
ففي آخر زياراتي لمحافظة تعز بصفتي عضوا في "الثورية العليا" ما بين سبتمبر وأكتوبر 2018 اجتمعت سرا ببعض مناضلي ومقاتلي اللجان الشعبية ممن باتوا خائفين ومتوجسين وملاحقين بتهم شتى بعد أن تحولوا ما بين ليلة وضحاها إلى "دواعش" و"مخربين" على خلفية قيامهم آنذاك، وتحديدا في النقطة الواقعة على جولة سوفتيل، بضبط سيارة مسروقة ومُبلغ عنها رسميا، ليفاجؤوا حينها بأن الشخص المضبوطة بحوزته تلك السيارة المسروقة كان يحتل منصبا أمنيا واستخباراتيا رفيعا في المحافظة ويدعى (م. ق) ويشغل منصباً رفيعاً في الأمن القومي والذي تفنن من جهته في التنكيل بمن ضبطوه وبمشرفيهم ومعارفهم الذين تعرضوا لأسوأ أعمال القمع بصورة لا تزال سارية حتى اللحظة، وتلك حالة واحدة بطبيعة الحال من مئات الحالات والانحرافات التي لا يتسع المجال هنا لسردها.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، ففي مراحل معينة كانت السجون تكتظ بنزلاء، 99% منهم ليست لهم أي صلة بأية أعمال عدائية ضد الثورة، فيما أخذت الوظيفة العامة تخضع وبشكل تدريجي لمعايير التفضيل "توافقية" في أحيان عديدة، وبدا واضحا أن قيادة الثورة باتت ملزمة في مراحل ومنعطفات معينة من تاريخ الثورة بتقديم إجابات شافية للقوى الاجتماعية في المجتمعات المحلية عن المغزى الحقيقي من وراء كل التضحيات السخية التي يقدمونها في سبيل دعم الثورة، وذلك على الرغم من ثقتي الأكيدة في الوقت ذاته بأن قيادة الثورة لم تكن على دراية حقيقية في الأصل بحدوث مثل تلك المساوئ والانحرافات الثورية، مثلما لم يكن لديها فهم واعٍ حتى بمخاطر حدوثها... إلخ. ومسائل كتلك تعد شائعة الحدوث فعلا في أغلب العمليات والتحولات الثورية الناشبة هنا وهناك في نطاق العالم أجمع.
في الواقع إن المفتاح لفهم مثل تلك الانحرافات الثورية لا يقتصر فقط على سرد أحداثها وتشوهاتها بقدر ما يستدعي منا تحليلا موضوعيا لفهم أسباب نشوئها في الأصل، وهذا مرده بالدرجة الأساس إلى كون أبرز الأخطاء الشائعة التي لازمت الثورة أو المسيرة القرآنية منذ البداية تمثلت في الفهم الخاطئ لبعض أركان نخبة الحكم، وبالذات في الوسط الأمني والاستخباراتي، الذين اعتقدوا وبشكل راسخ أن ثورة 21 أيلول/ سبتمبر 2014 نجحت واكتملت يوم قيامها.
وهنا يكمن مبعث الخطأ الأبرز، لأن نجاح الثورة يوم 21 أيلول كان يشكل من الناحية الموضوعية نجاح مرحلة واحدة فقط من آلاف المراحل التي سيتعين على الثوار قطعها وبمشقة هائلة لبلوغ مرحلة النصر الثوري المفترض، فالتاريخ السياسي للثورات يخبرنا أن كلا من الثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر والثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر احتاجتا على سبيل المثال قرابة أربعة أعوام كاملة لتثبيت أقدامهما أمام التحديات المضادة والتي تعد ضئيلة في الواقع إذا ما قورنت بحجم التحديات المضادة التي تعين وسيتعين على ثوار 21 أيلول/ سبتمبر مجابهتها لترسيخ إرث ثورة جماهيرية شعبية تم إنجازها في الواقع دون دماء تقريباً، خصوصا وأن مبعث الخطورة هنا يكمن في أن العديد من الأطر والمكونات الثورية التاريخية باتت اليوم بقصد أو حتى دون قصد هي الحاملة الحقيقية للمشروع الرجعي والتفكيكي المضاد بالصورة التي تناولناها آنفا!
إن أمام حركة أنصار الله، بوصفها قائدة العملية الثورية الراهنة اليوم، مهام مفصلية لا تتوقف فحسب من وجهة نظري عند حدود مجابهة العدوان الخارجي والتصدي له، بقدر ما تتعداها وبشكل أساسي إلى مجابهة الانحرافات والتشوهات الداخلية والتي لا تقل من حيث وطأتها وخطورتها عن مخاطر العدوان والتهديدات الخارجية ذاتها.
وإذا كان الواقع يخبرنا أن الصمود لـ6 سنوات ونصف أمام أعتى عدوان بربري دولي قد دفع بقوى رئيسية في أوروبا وأمريكا إلى الاعتراف بحركة أنصار الله بوصفها قوة ثورية ووطنية مهيمنة لها وزنها وحضورها... إلخ، فإن من شأن تصويب وتصحيح المسار الثوري الداخلي أن يرسخ شرعيتها وحضورها المستقبلي بوصفها حاملة المشروع التحرري والتصحيحي الأهم في خضم المشروع الوطني الأعم، وبما من شأنه التمهيد لوضع إطار تاريخي أوسع لصياغة مسار ومستقبل العملية الثورية بصورة أكثر موثوقية باعتبارها ثابتا وطنيا.
ومثل هذا الأمر لن يتأتى ولن يكون مثمرا من وجهة نظري ما لم تبادر قيادة الثورة وحركة أنصار الله باعتماد مبدأ الثورة الاجتماعية الدائمة والمتواصلة، والتي لخصها الرفيق القائد "كارل ماركس" بأنها ضرورة ملحة في مسار أي فعل ثوري لضمان الانتقال بالمجتمع المعني إلى مصاف التغيير الفعلي والمأمول، وهو المبدأ الذي طبقه الرفيق لينين والذي نجح من خلاله في التصدي لأعنف التحديات الداخلية والخارجية التي جابهت مسار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى.
* الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات