محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
لم يكن الشهيد المجاهد نعمان علوان محمد زوى، من منطقة حيفان - الأعبوس بمحافظة تعز، أول الأسرى المشيعين مباشرة من قبضة آسريهم إلى مثواهم الأخير، مثلما لن يكون الأخير بالطبع، فقد استساغ المرتزقة منذ بداية الحرب والعدوان قتل أسرانا وسحلهم والتمثيل بجثثهم بصورة علنية وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع، وأمام أنظار المجتمع الدولي على وجه الخصوص، الذي لم يكل حتى اللحظة من محاولاته صبغ الشرعية الوطنية عليهم في محافله الأممية رغم بربريتهم التي فاقت في بعض جوانبها وحشية النازيين في التنكيل بخصومهم إبان الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945).
وما يلفت الانتباه في جريمة اغتيال شهيدنا الأخير (نعمان زوى) هو أنه لم يتم قتله وسحله والتنكيل به بصورة مباشرة من قبل المرتزقة الذين اعتادوا بث جرائمهم المقززة تلك علناً على قنوات اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، على غرار ما حدث لأولئك المجاهدين الذين وقعوا في قبضة مليشياتهم إبان سنوات الحرب الأولى، ممن فُقئت أعينهم وقُطعت ألسنهم ومُزقت أجسادهم بحراب البنادق ودُفنوا أحياء، في واحدة من صور ومظاهر الإرث البربري التي خلفها المرتزقة في تاريخهم المخزي، والتي لن تمحى بالتأكيد من وعينا ومن ذاكرتنا الوطنية الجمعية؛ بل على العكس من ذلك.
فالشهيد نعمان زوى، الذي قبع في أسر العدو ما يقارب خمسة أعوام كاملة بمحافظة لحج السليبة وفي المعتقل الحربي الكائن بمصنع الحديد في مفرق الوهط، والذي تديره مليشيا أمير الحرب (ذي الماركة الإماراتية) حمدي شكري، رغم أنه خاضع كلياً، أي المعتقل، لإشراف وإدارة ضباط إماراتيين، أخضع على ما يبدو، أي الشهيد، وقبيل الإفراج عنه مباشرة في العشرين من شهر رمضان المنصرم ضمن صفقة تبادل الأسرى الأخيرة، لنوع من التسميم الكيميائي الغامض والبطيء من قبل آسريه في المعتقل الحربي ذاته، بالنظر إلى أن الشهيد الذي كان يتمتع إجمالا وطوال حياته بالصحة الجيدة ولا يعاني من أية علل أو أمراض بدنية أو نفسية أو وراثية، كان -وبحسب شهادة أغلب رفاقه المجاهدين في الأسر ومن ضمنهم ابن شقيقه المجاهد الأسير معه في السجن نفسه وسام فاروق علوان زوى- من أكثر الصامدين استبسالاً في مقارعة الغزاة ومرتزقتهم حتى من داخل زنزانته الكئيبة التي كانت حنجرته تصدح من بين ثنايا جدرانها المعتمة بالصرخة ليل نهار، محولاً بذلك نشوة الانتصار الزائفة لدى جلاديه إلى شعور خانق بالمرارة. وأمر كهذا يعد بديهياً؛ كون الشهيد نعمان (رحمه الرب) ينحدر أساساً من أسرة معروفة بتضحياتها وثباتها الجهادي في معركة الدفاع الوطني المقدس في وجه العدوان، أسرة المجاهد الشيخ منير زوى القباطي.
ولعل ما يثير الريبة في هذا الصدد يكمن في أن الشهيد نعمان كان آسروه قد نقلوه قبل صفقة التبادل الأخيرة بفترة وجيزة مصحوباً بحراسة أمنية مشددة إلى أحد مستشفياتهم في عدن، لإجراء الفحص الطبي الدوري، حسب زعمهم، رغم ندرة مثل هذه الإجراءات حيال الأسرى أو انعدامها كلياً ربما. وسرعان ما بدأ يعاني عقب مغادرته الأسر مباشرة في العشرين من رمضان الفائت من انهيار متسارع ومفاجئ لصفائح الدم، وبشكل حيّر الأطباء، لدرجة لم تفلح معها الجهود ولا العقاقير الطبية ولا العشرات من قرب الدم التي تم تزويده بها يومياً، في وقف هذا الانهيار الذي أسفر عنه بطبيعة الحال وبصورة كارثية انتكاس العديد من أعضاء جسده وتعطلها كلياً عن أداء وظائفها الحيوية، مثل الكبد... وغيرها.
وبحسب رأي معالجيه، فإن حالته وأعراضه المرضية المفاجئة والمميتة تلك لا تنتج سوى عن نوع غامض من السموم الكيماوية الملقحة بإتقان وبدرجة تتيح لها إنهاك بدن الشخص المستهدف واستنزافه وقتله بشكل بطيء ودراماتيكي دون أي إمكانية للنجاة.
في نهاية المطاف، ربما نجح المرتزقة في تحويل فرحة أبناء الشهيد وأسرته ومحبيه بمغادرته الأسر إلى مأتم عائلي مثقل بالمرارة والحزن، وربما بدأ المرتزقة أيضاً في ابتداع وسائل قتل أخرى وملطفة لأسرانا ومجاهدينا، سعياً منهم لتلطيف صورتهم المشوهة في الداخل والخارج، مع أن هذا لا ينفي بطبيعة الحال حقيقة أن القتل المنظم للأسرى والمجاهدين والوطنيين الأحرار من مناهضي العدوان ومرتزقتهم أصبح في عديد من الحالات هواية محببة، شارك فيها جميع المرتزقة الذين أتيحت لهم الفرصة بسرور وحماس وباسم "الشرعية الوطنية". لكن المسؤولية الجنائية والأخلاقية في هذا الشأن تقع أولاً وأخيراً على كاهل الغزاة من جلاوزة التحالف، الذين سمحوا لمرتزقتهم في الداخل بالتصرف دون قيود في ارتكاب أعمال وجرائم كتلك، والمتناغمة أصلاً مع طبيعة المعتقدات الإلغائية والإجرامية ذاتها التي تحكم سلوك أنظمتهم الملكية القمعية في الخليج حيال شعوبهم في الداخل وخصومهم الخارجيين على حد سواء.
وحتى يحين وقت الحساب، الذي سيحل يوماً ما ولا شك، فإنه ينبغي على "حكومة صنعاء" المباشرة برصد وتتبع مثل تلك الحالات وجمع أكبر قدر ممكن من البيانات التجريبية لمعرفة منشئها، خصوصاً وأنها قد لا تكون محصورة فقط في شخص الشهيد نعمان زوى، وإنما في العشرات وربما المئات غيره من الأسرى الذين أنهكوا العدو حتى في مضجعه، والذين قد يكونون تحولوا -وهذا مؤكد- في عهدة المرتزقة وأسيادهم إلى فئران تجارب سريرية لإتقان فن القتل المتنوع، والذي لا ينضب في بلادنا، فنحن "ملأى بالريح، والريح أحكم منّا"، كما قال مفكر القرن السابع عشر الفرنسي ميشيل دي مونتين (Michel de Montaigne).

أترك تعليقاً

التعليقات