الإمام محمد حميد الدين وحرب التحرير
 

محمد ناجي أحمد

تمت مبايعة الإمام المنصور محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين، بعد وفاة الإمام الهادي شرف الدين، وذلك في 19 شوال سنة 1307 هجرية، الموافق 9 يوينو 1889م. وكانت وفاته سنة 1322 هجرية/1904م. 
وقد تم اختياره للإمامة وهو في صنعاء، متردداً بين القبول والرفض، لكنه رأى واجب القيام بالأمر والجهاد ملزماً له، فارتحل إلى جبل الأهنوم، ومن هناك بدأ حرب التحرير ضد الأتراك. 
كان يردد في مجالسه كهدف دائم لحروبه ضد الأتراك (سنقاتل كل من يحاول اختلاس فتر من أرضنا، وكلَّ من هضم ذرة من حقوقنا، سنقاتل حتى نفوز بالشهادة، نجاهد، ونحن مؤمنون بالله، واثقون برحمته، وطيدو الأمل بعونه)، كما جاء في دراسة الدكتور محمد عيسى صالحية، في مقدمة كتاب سيرة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين المسماة بالدر المنثور في سيرة الإمام المنصور، لمؤلفه علي بن عبد الله الإرياني (ص9). 
كان الإمام المنصور محمد حميد الدين يفتتح رسائله للقبائل، ولقادة الأتراك، وفي مراسلاته إلى العرب في الشام والعراق والحجاز، وإلى السلطان في الأستانة، بقوله بعد البسملة (عبد الله، وفَّقه الله، المنصور بالله إن شاء الله).

استراتيجيته في حروب التحرير:
اعتمد الإمام محمد حميد الدين في حروبه التحريرية ضد الأتراك، على كافة الوسائل المعروفة في حروب التحرير، فقد جمعت استراتيجيته بين وسائل حرب العصابات، وبين حرب الجيوش النظامية، حتى يجعل القوات المعادية في قلق وإرباك وحركة دائمة، لا يستقر لها قرار (ص102).
شملت حرب العصابات: قطع الطريق على قوات الأعداء، ومنع وصول المواد الغذائية، واللحوم، والذخيرة، سواء من البر أو البحر، وقطع التلغراف، ولجأت القوات الإمامية إلى دسِّ القنابل المتفجرة، وفتائل البارود لإحراق المراكز العثمانية، والتسلل إلى أماكن العدو ومرتزقته، كما حدث حين نجح أحد رجال الإمام (في التسلل إلى سمسرة تعود إلى صاحب وُعلان، علي يحيى -التي بات فيها محمد بنُ حسن بن صلاح فايع، مدير سنحان من قبل الأتراك، وصحبته جماعة من عُقال وُعْلان وضبطية وأتراك -حيث أظهر الرجل أن ما يحمله حماره هو وقرُ حبٍّ، وفي حقيقة الأمر كان وقر بارود، ومن ثم نسف السمسرة على ما فيها، حيث هلك 35 رجلاً، وما في السمسرة من دواب: بغال وغيرها تعود إلى الأتراك وأعوانهم) (ص105).
وقد أجاز الإمام المنصور محمد حميد الدين لأتباعه الفتك بأعوان الأتراك، والذين يغدرون بقواته، حيث استند على فتوى تُبيح قتل المُضرِّ من أعوان الظلمة. ومن ذلك إرساله من يغتال محمد بن محمد جغمان، لمعاونته الأتراك وإظهار المحبة لهم (والمعاونة لهم باللسان والقلم)، وقد طعن ثلاث طعنات، لكنه لم يمت، وإنما ظل مريضاً وخائفاً يترقب القتل) (ص٥٠٢-٥٠٣).
وبالإجمال، فإن القوات الإمامية اتخذت مبدأ إيجاد القاعدة الآمنة لتنطلق منها في مهاجمة القوات المعادية، لتجبر القوات العثمانية على الحركة الدائمة، تثير الغبار من تحت أقدامها دوماً، لا تترك لها مجالاً للاستراحة أو تعطيها الفرصة لإعادة تنظيم وجمع صفوفها (ص107).
ويراسل مشائخ القبائل حاثاً إياهم على تقديم المساعدة المادية، والمعاونة على الأعداء وبذل الهمة وإظهار العداء للأتراك واعتقال (كل من ترونه منهم في الليل والنهار) (ص129-130).
كان الإمام محمد حميد الدين متابعاً لكل قرارات وإدارة العثمانيين للمناطق التي تقع تحت نفوذهم، فحين قرر تحسين حلمي باشا على مأموريه لبس العمامة، وأزاح بعض المشائخ والعقال بغيرهم، تقرباً للرعية، استثمر الإمام ذلك، فكان رد فعل المشائخ المقالين في صالحه، وبخصوص لبس العمامة علق قائلاً للناس: (قد ظنوا، ما الإسلام إلاّ لبس العمائم)، ولجأ إلى أسلوب ذكي مع أسرى الأتراك، فقد كان يجهزهم بما يحتاجونه للعودة إلى بلادهم في الشام والعراق، محملاً إياهم رسائل لوجهاء تلك الولايات، عارضاً القضية اليمنية، مسلطاً الضوء على ظلم وفساد الأتراك، حاثاً إياهم على عدم إرسال أبنائهم إلى التهلكة في اليمن. وكذلك كان استغلاله لمواسم الحج، واصفاً في رسائله ما يقع من الأتراك من اعتداء على شريعة الله وعلى اليمنيين.
والغريب أن سلاطين الأتراك كانوا يصفون أنفسهم بـ(خادم الحرمين) والمدافعين عن الأماكن المقدسة، ولم يحدث أن قام أحد منهم بأداء فريضة الحج بنفسه. 
ويصف الإمام - في رسالة جوابية على الياور علي بن المثنى الحسيني - السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد بقوله: (هذا السلطان الخبيث قد كَدَّر على المسلمين مشارب الدين والدنيا، فاخلعوه قبل أن يبيعكم من الكافرين، وتقيموا من طاعته نادمين) (ص155).
ويصف موقف سلاطين بني عثمان من احتلال عدن ومصر، بأنه تواطؤ مع البريطانيين (الكفار).
ففي رسائله إلى حاشد وبكيل، يذكرهم بمثالبهم وسوء أفعالهم، وكيف تركوا مصر غداة احتلالها من قبل الإنكليز، وتواطئهم على ذلك، وعدم إقدامهم على إعلان الجهاد ضد (الفرنجة) في مصر، وسيطرتهم على مشيخات الخليج، واقترابهم من مقدسات المسلمين في مكة والمدينة. قاصداً بذلك التهكم والسخرية بالألقاب التي اتخذها سلاطين بني عثمان على أنفسهم (سلطان المسلمين، خادم الحرمين الشريفين، حامي ديار الإسلام في البرين والبحرين)، فليس هناك تطابق بين هذه الألقاب وبين أفعال الإمبراطورية العثمانية. 
ويوجه تحذيره لمرتزقة الأتراك في اليمن، مذكراً إياهم بأن مصيرهم سيكون جزاء سنمار، مستشهداً بما حدث للقاضي يحيى المجاهد وأحمد الضلعي، حين بطش بأموالهما الوالي والمتصرف العثماني، وكيف مات الأول منفياً شريداً في الأستانة، والثاني في عكا، دون أن يجدا إنصافاً من السلطان العثماني!
لقد جمع الإمام محمد حميد الدين بين تعدد وسائل الحرب، إعلامياً وميدانياً، بمتابعة دائمة ودائبة لحركة وتصرفات العدو.
لقد كان الحذر من التعامل مع الدول الغربية متجذراً لدى الأئمة، فهذا عبد الرحمن الكواكبي، أحد زعماء الإصلاح، يرسل بكتابيه (أم القرى) و(مصارع الاستبداد...) إلى الإمام محمد حميد الدين، ويطلب منه أن يعمل على طبع كتب الزيدية رداً على من يقدم الزيدية بصورة مغلوطة، ويرسل مع الكتابين بشيفرة (رمز معمَّى) ليعتمدها في الاتصال والتعبئة والتنظيم. لكن الإمام بعد أن قرأ الرسالة والكتابين، كان تعليقه: (في الكتابين -يعني أم القرى وطبائع الاستبداد -ما يوجب الشك ويُثمر الظن، إن في ذلك استطلاع ما عند المسلمين من الهمة والغيرة على الدين، ولعل ذلك مدسوس من جهة قرال الإنجليز) (ص172). فالإمام رفض تعاون الكواكبي لشكه أن له علاقة بالإنجليز.
تواطؤ بعض المشائخ مع الأتراك:
كان بعض مشائخ اليمن يغيرون مواقفهم إذا أغدق عليهم الأتراك بالمال. من ذلك أن الشيخ ناصر مبخوت الأحمر الذي أعطاه الأتراك 11 ألف ريال، مقابل أن يخرج المجاهدين من حصن الظفير، فتم للأتراك ما يريدونه. ويعلق المؤرخ العلامة (علي عبد الله الإرياني) مؤلف سيرة الإمام، الآنف الذكر، قائلاً: (وإنما من زعم أن السبب في الخروج، أن العجم كانوا يتهددون الشيخ ناصر بن مبخوت، بإخراب البيوت التي في الخمري في بلاد حاشد، فذلك عذر كاذب فاسد) (المرجع السابق الذكر، ص418).
وكان أحمد فيضي كتب إلى النقيب محسن بن قائد أبو راس، وغيره من عقال ذو محمد، بأن يسلموا الأسارى إليه، ومنَّاهم بالأموال الجليلة، فأجابوا عليه بأن يصل إليهم، ويكون أخذهم بصورة الغلبة، لأجل يكون لهم عذر عند الإمام. (فلما علم سيف الإسلام حفظه الله بأن ذو محمد قد تمالأوا على الغدر، وارتدوا بلباس الذم إلى آخر الدهر، سار ليأخذ الأسارى، فوجد جماعة من ذو محمد قد أرصدوا لمنعه منهم، حتى هموا بقتله، قتلهم الله أنى يؤفكون، فعند ذلك ارتحل سيف الإسلام بأهله، ووصل عدو الله أحمد فيضي إلى برط، فسلَّم إليه ذو محمد الأسارى، فكان عاقبة أمرهم حسارى وتبارى) (ص428).

أترك تعليقاً

التعليقات