أحمد يا جناه وتمرد الزرانيق
 

محمد ناجي أحمد

الزرانيق قبيلة تسكن في تهامة، وبيوتهم من عشش، ليس لهم قرار ولا بيوت من بناء، بل تسكن القفر، وبيوتها عشش من الشجر يسمى القش.
وهي بحسب العلامة الشيخ عبد الواسع بن يحيى الواسعي اليماني، في كتابه (تاريخ اليمن) المسمى (فرجة الهموم والحزَن في حوادث وتاريخ اليمن)، فيها (من القوة والجلد ما لا يوجد في غيرها، وتصطاد الغزلان بنفسها عَدْواً، وفي تهامة الغزال كثيرة فإذا وُجد غزال لحقه أحد رجال هذه القبيلة، ولايزال يطارد الغزال في حر الشمس، في حر الهاجرة، في حر الرمضاء التي تسمى الرمالة، يعجز الإنسان عن وضع قدمه فيها، فيطارد الغزال أربع ساعات حتى يعجز الغزال وينسطح على الأرض وهو يثغي بصوته، فيمسكه الصائد بيده، والغزال لا يتجاوز في عدوه أربع ساعات لا يتوقف فيها، وهذه المطاردة للصيد لها شرط عند أهل هذه القبيلة في تهامة، وهو أن الصائد لا يشرب الماء، لأنه إذا شرب الماء لا يقدر أن يمشي في حر الشمس سوى نصف ساعة، ثم يشتد عليه العطش، ويسترخي بدنه ويتعب، وأيضاً بشرط ألاّ يأكل عند المطاردة خبز طعام، لأنه يفتر عن سرعة المشي والمطاردة، بل يأخذ حبوب الذرة في طرف ثوبه، وكلما جاع أكل من ذلك).
وهذه القبيلة في تمرد دائم على كل نظام ودولة، فكيف إذا وجدت من يدعمها ويحرضها بالمال والسلاح على التمرد.
ففي سنة 1319 هجرية الموافق 1901م، حصلت معارك بين الأتراك وبين قبيلة الزرانيق (وهذه القبيلة أكثر السنين وهي ثائرة على قطع الطريق، وقد أعجزت الحكومة العثمانية).
وفي عام 1347 هجرية الموافق 1929م، وبعد أن عجز الإنجليز عن إجبار الإمام يحيى على الاعتراف بخط الحدود الإنكلوعثماني في اليمن، والذي رسم في 1901-1905م، وتم التوقيع النهائي عليه عام 1914م، بين الدولتين الاستعماريتين على اليمن: تركيا وبريطانيا.. عمل الإنجليز على تحريض قبيلة الزرانيق وشيخها (أحمد فتيني)، بعد أن كانوا قد استخدموا قبل ذلك بـ12 سنة الطائرات (فوق (تعز) و(ذمار) و(ماوية) و(إب)، وألقوا منها مناشير يقولون فيها ما معناه: إنهم يلقون قنابلهم على هذه المدن إن لم تخل جنود الإمام (الضالع) و(الجليلة) و(قعطبة)، وعينوا الـ7 من شهر رجب سنة 1336 هجرية موعداً للضرب، (أي أن الإنجليز هددوا بضرب المدن وإسقاط القنابل على المدنيين العزل، وحين رفض الإمام يحيى الانسحاب نفذوا تهديدهم على هذه المدن وغيرها من القرى مثل (شهاب) الواقعة قريباً من ماوية، وقتلت ولدين، وعلى قرية (عمر الصعدة) فجرحت 4 من الجنود. وأما في تعز وهي مدينة كبيرة، فكانت الخسائر أعظم، إذ بلغت قرابة 3000 شخص بين قتيل وجريح، ومعظمهم أطفال ونساء وشيوخ، وفي (يريم) مات رجلان وامرأتان، وفي ذمار هدمت داراً ومسجداً وجرحت أشخاصاً. وفي قرية (النادرة) قُتلت امرأتان، وأغلب هذه القرى كما يقول الواسعي، في كتابه سابق الذكر، لم تكن مذكورة في الإنذار الذي أُلقي عليهم من علٍ. وزد على ذلك أن رشاشات تلك الطائرات، أمطرت السكان وابلاً من الرصاص، قتلت مئات من الأهالي المساكين، كما أن القنابل الجهنمية هدمت بيوتاً ودواب لا تحصى، ولا ذنب لسكانها، إذ كانوا قاطنين في منازلهم، آمنين على نفوسهم. فوقع ذعر عظيم في أولئك الناس المظلومين، فمنهم من لجأ إلى المغاور، ومنهم إلى الجبال، وآخرون إلى قرى لم تُرْمَ بشيء، وهكذا أخذ الناس يكرهون الإنكليز كراهيتهم للموت. ومع ذلك لم يسلِّم الإمام بما طلبوا، ولكنهم أعادوا الكرة بعد 12 سنة، متخذين وسيلة أخرى بلوغاً لغايتهم، وهي أنهم هيجوا على الإمام الأعراب المعروفين بـ(الزرانيق) للوصول إلى مبتغاهم.
وقد حرضوا الشيخ (أحمد الفتيني) لتقديم شكوى إلى (عصبة الأمم) يدعي فيها حقه في تهامة والحديدة، وقد مدوه بالمال والسلاح للتمرد على الإمام والهجوم على الحديدة، والسلب والنهب في طرق القوافل التجارية. وحين أرسل لهم الإمام يحيى تجريدة عسكرية، قتلوهم عن طريق المكر وهم نيام، ففي سنة 1347 هجرية الموافق 1929م (بعد إظهار الزرانيق خداعاً الطاعة لجلالة الإمام يحيى، بعد أن استفحل تعديها لقطع الطريق وقتل المارة، أرسل الإمام قائداً مع جند كبير لإخضاعها، ولما كان الجند في محلات تلك القبيلة هجمت كل قرية على من تحتها فقتلتها، وكان قتلها غدراً، ذبحاً في حالة النوم، وعدد القتلى ألف مع القائد، ثم كان نزول ولي العهد بجيش جرار لتأديبهم وإخضاعهم).
وقد سار سيف الإسلام أحمد من دار حكمه في (حجة)، وأخذ (بلاد المراوعة) و(الدّرَيهمة) بعد معارك عنيفة، ثم أخذ الشواطئ البحرية، فاحتل (الجاح) و(الطائف)، وهي غير طائف الحجاز، ثم ميناء (غَليْفِقة)، فأقام فيها حصوناً وقلاعاً، ووضع فيها حرساً للشواطئ، واستولى على سفن الزرانيق الشراعية، وسيَّرها إلى (الحديدة)، فمنع أبناء تلك القبيلة من الوصول إلى البحر، والحصول على الأسلحة من تلك الطرق. (فشعر شيخهم الأكبر بالخطر، فانهزم إلى محرضيه الإنكليز في جزيرة (كمران) الواقعة على مسيرة يوم من شمالي (الحديدة)، واستسلم من بقي من صغار الشيوخ إلى سيف الإسلام، وأعطوه الرهائن أسوة بغيرهم من القبائل).
لقد استثمر سيف الإسلام أحمد في حربه على (الزرانيق) الثقافة الشعبية المتمثلة بإيمان تلك القبيلة كسائر اليمن بـ(الجن) وتسخيرهم، فكان أصحابه يشيعون في المعركة أن الإمام مصروف عن الرصاص، وأن (الجن) مُسَخَّرة له، وأطلقوا عليه (أحمد يا جناه)، مستخدماً الحيل القتالية، وكأنها من أعمال الجن.
وقد استثمر هذا الوعي الشعبي المسيطر على العامة حين أصبح نائباً للإمام في تعز. فحين عزم على الذهاب إلى (يفرس) في جبل حبشي، حيث يوجد ضريح الولي الصوفي الشيخ (أحمد بن علوان)، لهدم ذلك الضريح، وما يمثله من اعتقادات شعبية لدى العوام من تداوٍ بتربته وتبرك بمقامه، وما يمتلكه هذا الضريح من سلطة روحية على الناس تنازع السلطة المادية لسيف الإسلام أحمد، وجَّه مستشاره الفلكي، والذي كان يعرف وقتها بصفة (مُنَجِّم الإمام)، وهو رائد التربية الحديثة والمسرح في اليمن: محمد أحمد حيدرة، بعمل مسرحية يصور فيها هدم ضريح ابن علوان، قبل الإقدام على ذلك فعلياً، كتهيئة فنية وخطابية للنفوس، ولمعرفة ردود الفعال عند العامة، وقد عُرضت المسرحية في (الميدان) بمكان (شجرة الطولقة) بالمدينة القديمة، وفي جوار المقام بالعرضي. أجاد رائد المسرح اليمني، والتربوي المجدد محمد أحمد حيدرة، في إعداد وإخراج المسرحية، نصاً وتدريباً للممثلين من تلاميذ مدرسة الذهب، وإعداداً للمكان والملابس.
بعد ذلك تحرك سيف الإسلام أحمد بموكب وبهيئة مسرحية، وكأنه في حملة حربية يقودها ضد الرمزية التي تجسدها سلطة ابن علوان. تحرك الموكب بصورة تجمع بين القوة والأبهة، لتنتهي الحملة بهدم الضريح، الذي كان قد هدمه فنياً محمد أحمد حيدرة، من خلال المسرحية المعروضة في (الميدان).

أترك تعليقاً

التعليقات