نهج النبوة في الدعوة والحرب 2-2
 

محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد

كانت الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر على موعد مع التغيير، فكانت الرسالة، وكانت الخبرة القتالية التي تراكمت داخل القبائل في الجزيرة العربية وتخومها هي القوة التي استعانت بها الرسالة لإحداث التغيير وهزيمة أعتى إمبراطوريتين، الفارسية والرومانية. 
في كتابه "النضال المسلح في الإسلام"، الصادر عن دار العودة بطبعته السابعة 1981م، يستعرض محمد عيتاني القدرات الحربية والذهنية للنبي محمد، ذلك بتناوله التحليلي للغزوات والمعارك الكبرى التي قادها النبي، في بدر وأحد والخندق، وتلك التي سيرها كغزوة مؤتة... الخ.
تميز النبي محمد بقدراته الحربية والذهنية، ورافق ذلك تعضيد البعد الإيماني للبعد الحربي، في تماسك المسلمين، وصداً للهزيمة من أن تتغلغل في النفوس. فقد صلى الرسول أثناء هزيمة أُحد قاعدا وصلى خلفه أصحابه قعوداً، وجراح النبي وأصحابه حية تسيل بالحزن والكربة ووقع الهزيمة
 فكان لهذه الصلاة أثر كبير في إعادة معنويات جماعة المسلمين، وانتشالها من السقوط في هزيمة الروح.
لم يكتف النبي بذلك، بل أرسل علياً بن أبي طالب خلف آثار الأعداء، وفي ذلك حكمة حربية، وحضور متوقد للذهن العسكري، رغم فاجعة الهزيمة في أُحد. قال النبي لعلي بن أبي طالب: "اخرج في آثار قريش وأحلافهم، فانظر ماذا يصنعون، وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل (أي قادوها إلى جنوبهم – عن جوانبهم) وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون الجلاء عن هذه الأماكن قاصدين مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة".
حين شاهد النبي عمه حمزة، ووجده قد بقر بطنه ومُثّل به، فجدع أنفه وأذناه، قال: "والله لئن نصرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثّلن بثلاثين منهم"، فنزل القرآن: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلاَّ بالله. ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يمكرون}. العين بالعين، والمثلة بالمثلة، لكنها النبوة وعظمة الرسالة التي جاءت لتتم مكارم الأخلاق من صبر وكظم للغيظ وعفو وتسامح وإحسان، تعزيزاً لقيم الخير والعدل.
هي النبوة والرسالة المتقدمة إنسانيا في تكريس قيمة الصبر، فالصبر خير من الاستسلام لمشاعر الانتقام والحزن والسقوط في مكر أخلاقيات أعداء الرسالة التي جاءت لتخرج الناس من ظلمات القهر والعبودية إلى جلال النور وجماله.
تتجلى الذهنية الحربية المتقدمة للنبي في إدارته لغزوة بدر، فلم يترك عابراً أو راعياً أو جارية إلاَّ وسأل عن خصوم الرسالة الذين خرجوا لقتاله، واستنقاذا لتجارتهم التي يقودها أبو سفيان. وقد أعطى أصحابه حق عدم المشاركة في القتال إن أرادوا العودة إلى المدينة، فبيعة الأنصار لا تلزمهم القتال خارج المدينة. وليطمئنوا فقد وعدهم بأنه منهم وهم منه، وأنه لن يتركهم إن نصره الله على قريش. 
في معركة الخندق كانت الحنكة الحربية للنبي في حذره وتنبهه من مكر وغدر بني قريظة، فكان مستعداً لما يمكرون، واستطاع أن يخلق الشك والريبة بين بني قريظة وقريش، حين أوعز إلى أحد أصحابه أن يشير على بني قريظة بأخذ رهائن من قريش، فكان انفراط المؤامرة، وكان لحفر الخندق أن استنزف القوة المعنوية للأعداء، ومكن الرسول من أن يخلخل الأحزاب، فتكون النتيجة نصراً للمسلمين، وإدباراً لقريش وأحزابهم وأحلافهم.
 كان من حكمة النبي أن فرض أجراً لمن يعمل في حفر الخندق، وذلك حسن تقدير واستيعاب للواقع المعيشي والنفسي بأبعاده الفردية والجماعية، وتوظيف للإمكانيات في معركة وجودية حاسمة. فلقد حشد الأعداء كل إمكانياتهم القبلية والمادية، وأحلافهم، حتى بلغ عددهم عشرة آلاف مقاتل، غير تواصلهم مع يهود بني قريظة، لطعن المسلمين من داخل المدينة.
استخدم النبي استقصاء الأخبار، ولغة الرمز والإلغاز في إيصال الرسائل والمعلومات، والتكتم والشورى... الخ.
ووظف الغزوات العديدة التي أرسلها للقبائل التي تحيط بالمدينة، وذلك منذ ما بعد هزيمة أُحد ثم ما بعد معركة الخندق، مما يعكس معرفة دقيقة بالجوانب النفسية والاجتماعية وطبائع تلك القبائل، وطبيعة يهود المدينة وطبيعة الأعراب.
ثم كانت غزوة مؤتة لإزالة حاجز الخوف من الامبراطوريتين العالميتين آنذاك، ولتوجيه بوصلة الهداية إلى الناس أجمعين، من خلال الاستعداد لدحر روما وفارس، فكان انتصار النبوة بتحويل العصبية القبلية من ضيق العشيرة والأفخاذ إلى أفق العروبة والإنسانية.

أترك تعليقاً

التعليقات