ازدواجية الإصلاحي/ الثوري 1-2
 

محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

تداول الكُتاب الماركسيون بشكـل خـاص تعبير «في التحليل الأخير» كلازمـة مصاحبة لكـل تحليل يريــدون منه الوصــول إلى استنتاج وحيد، لا يتسـع لتعدديـة الاستنتاجـات. وهي لازمـــة تعكــس أحــاديــة الاستنباط، التي لا تــرى للظاهـــرة المدروسة إلاَّ نتيجة مغلقة على فهم أحادي ووحيد؛ أي أنه تعبير شمولي النزعة يتوارثه كُتاب اليسار دون أن يراجعوا 
دلالاته الرافضة لحكم معرفي مغاير. 
وعلى هذا التعبير المتداول سار الباحث قادري أحمد حيدر في العديد من استنتاجاته في كتابه «الصراع السياسي في مجرى الثورة اليمنية وقضية بناء الدولة 1962-1963 إلى 1990م». 
لكن ما يحسب لهذا الباحث هو مثابرته في الكتابة البحثية، وإن اختلفنا معه حول العديد من أحكامه ومنحى استقراءاته وتحليلاته، التي تتراوح بين الأيديولوجي ورغبة الخروج عنه، وبين الإصلاحي والثوري. 
إن تخصيص الإمامة بالتوصيفات التي تجعل منها حالة غرائبية خارج التاريخ هو من وجهة نظري عمل لا تاريخي، فالإمامة جزء من الأنظمة الإقطاعية وشبه الإقطاعية، ينطبق عليها ما ينطبق على كل السلطنات والممالك والإمارات التي عكست ذلك النسق التاريخي من الحكم. 
إن قول الباحث بأن الإمام الهادي يحيى بن الحسين استخدم سياسة «فرق تسد» بين القبائل لتسهيل انقيادها وترويضها، وتطويعها بغية تنفيذ وتكريس مشروع الإمامة في السلطة والحكم (ص15) قول فيه إسقاط لسياسات امبراطورية انتهجها الاستعمار البريطاني في مستعمراته العديدة، منذ القرن التاسع عشر، فالحكم على سياسة الإمام يحيى بن الحسين بهذا التوصيف حكم يفتقد إلى الحيثيات والاستدلالات التي يفترض بالكاتب أن يحيل القارئ إليها، وهو ما لم يفعله، مكتفياً بالحكم الجاهز من خلال المقولة التي تواترت عن سياسة الاستعمار البريطاني في الهند وجنوب اليمن والخليج العربي... إلخ.
باعتقادي أنه في هذه المرحلة المبكرة للإمامة في اليمن فإن القبائل هي التي استخدمت الأئمة في صراعاتها الداخلية، وكانت تنضوي ضمن سلطة هذا الإمام أو ذاك وفقاً لتلبية الأئمة لاحتياجات ومتطلبات الصراعات والتنافسات القبلية، وليس العكس. وعلى ذلك يمكننا أن نفهم سبب التزام القبائل لبيعتهم أو انشقاقهم وتمردهم على ما بايعوا عليه. 
لقد كانت دولة الإمام محمد بن أحمد بن الحسن، المعروف بـ»صاحب المواهب»، نسبة إلى مكان حكمه: قرية «المواهب» في ذمار، متماثلة مع مفهوم الدولة السلطانية، بمعنى أنها كانت ملكاً في مظاهرها بشكل مطلق، وبالتالي فإن ما ذهب إليه الباحث في نفيه لمفهوم الدولة المتعارف عليها في العصور الإسلامية، هذا القول غير صحيح. يقول الباحث: «لا وجود للدولة بمضمونها وبمعناها السياسي والقانوني، التقليدي (دولة سلطانية) كما يقدمها الماوردي في كتبه، وحتى شكل ومضمون الدولة الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية... وصولاً لشكل وهيئات الدولة في صورة الدولة الزيادية، والصليحية، والأيوبية، والرسولية، والطاهرية، التي عرفتها بلاد اليمن (ص29). كذلك حكم المملكة المتوكلية في عهد يحيى وأحمد كان الحكم فيها في مقتضياته السياسية ملكياً، تنطبق عليه صفات وخصائص الحكم الملكي في الجزيرة العربية، مع خصوصية طبيعة الإنتاج والثروة والتركيبة الاجتماعية التي تنعكس على طبيعة وتقاليد الحكم في اليمن. 
يصف الباحث قادري انتماء عبد الله جزيلان بأنه «من أبناء الفلاحين والرعية»، والصحيح أنه من أبناء طبقة المشيخ الضاربة جذورها المشيخية في «برط» لأربعة قرون على الأقل، حيث نجد لبيت جزيلان حضوراً في أحداث القرن السابع عشر وما يليه. وربما أن هذا المنشأ هو أحد الأسباب الدفينة التي شكلت التنافر بين المقدم عبد الله جزيلان والملازم علي عبد المغني، منذ كان الأخير طالباً في الكلية الحربية، إلى أن تخرج وشكل تنظيم الضباط الأحرار، فقد استبعد جزيلان الملازم علي عبد المغني من توزيعه على سلاح المشاة، أو المدفعية بحسب تخصصه، وأصر علي عبد المغني على عدم ضم جزيلان إلى تنظيم الضباط الأحرار، لأسباب منها قرب جزيلان من ولي العهد (محمد البدر) الذي عمل على ترقية جزيلان وقفز به رتبتين. وفي ظني أن الصراع الخفي بين المنشأ الفلاحي الرعوي لعلي عبد المغني، والانتماء المشيخي لجزيلان، كان عاملاً رئيسياً في عدم تقبل كل منهما لشخصية الآخر، خاصة وأن علي عبد المغني تميز منذ كان طالباً في الصف الأول الثانوي بالقدرة على التأثير والاستقطاب بين زملائه الطلاب. وبالمقابل كان جزيلان معتداً بنفسه ولديه نزوع للقيادة بسماتها المشيخية، وإن تأثر بالتوجه القومي خلال فترة الإعداد لثورة سبتمبر وسنوات الدفاع عنها، وتأثر بالتوجه الماركسي أثناء إقامته في مصر بعد لجوئه إليها عام 1967. 
يتخذ الباحث مصطلح «مشايخ أرض» في توصيف مشايخ جنوب الشمال، بدلالة مميزة عن مشايخ القبائل الشمالية، كون الأخيرين مشايخ سلاح وسلطة. ولو استخدم الباحث مصطلح «مشايخ الزراعة» لكان أكثر دقة، فمشايخ تعز وإب يطلقون على أنفسهم «مزارعين» عند التعريف بأنفسهم. 
لم يكن ضعف تنظيم الضباط الأحرار عائداً إلى المثالية الرومانسية لقيادة التنظيم، وانخراطهم في جبهات الدفاع عن الثورة الوليدة فحسب - كما يذهب الباحث، وإنما كان للقيادة السياسية ممثلة بعبد الله السلال وكبار الضباط دور في إضعاف التنظيم، وسلبه أي دور قيادي بعد الثورة، تخوفاً من طموحات الضباط الشباب في أن يكرروا تجربة ثورة 23 يوليو في مصر، وقد صدر عن السلال والجائفي وعبد الله جزيلان من المواقف ما يعزز قولنا هذا. 
يتحدث الباحث عن ضرورة القطع مع الصراعات السابقة، التي تتنازع السلطة وتغلفها بمصطلحات «اليمين واليسار» و»اليسار الانتهازي» و»اليسار المغامر» و»اليسار المتطرف» داخل إطار «صراعات الجبهة القومية في قمة السلطة بعد الاستقلال»، وبالتالي فهو يدعو إلى الاستفادة من التاريخ، وعدم تكرار مآسيه، والصراعات التي يصفها بـ«العبثية/ الاعتباطية»، فهو يرى هذه التسميات والمصطلحات التي استخدمتها مكونات الصراع نتيجة «لغياب الديمقراطية وعدم القبول بالآخر والقفز فوق قوانين المرحلة الوطنية التاريخية» (ص38). وبالتالي فهو يطالب «بالابتعاد عن وهم أيديولوجيا احتكار الحقيقة (ثقافة الكل في واحد)»، فبناء الدولة الوطنية الحديثة في اليمن شماله وجنوبه لم يستوعب -بحسب الباحث- واقع التعدد، «وفرضَ أنموذجه الأيديولوجي والسياسي بقوة السلطة والغلبة والعصبية، وتلك مشكلتنا مع بناء الدولة الوطنية الحديثة، وبالنتيجة عدم استقرار النظام السياسي في واقع الممارسة» (ص37).
يصف الباحث في تحليله وحكمه على تجربة الجبهة القومية والحزب الاشتراكي في جنوب اليمن، بالحكم الشمولي والعبثي والاعتباطي في صراعاته على السلطة، لكنه في آن ينطلق من مصطلح إنجاز مرحلة «التحولات الوطنية الديمقراطية» وما سماه الباحث «قوانين المرحلة الوطنية التاريخية»، وهي مقولات وتوصيفات تنطلق من مسلمة التحالفات الجبهوية كتحالفات تكتيكية مرحلية للوصول إلى حكم الطبقة الواحدة، بعد إنجاز مهام مرحلة «التحولات الديمقراطية الثورية». وهنا يكمن الاضطراب التحليلي والموقف المعرفي لدى الباحث، الذي تتنازعه لغة الباحث «الإصلاحي» ويقينيات السياسي «الأيديولوجي الثوري» فالخيار الديمقراطي بحسب هذا النهج هو خيار انتقالي تدرجي «لمرحلة انتقالية (تدرجية/ تاريخية) تستفيد مما كان، وتستوعبه للانتقال إلى ما يجب أن يكون» (ص40). بالتأكيد هو يتجه في تحليله إلى أهمية وضرورة إدارة أزمة التحول واستيعابها بعقل مفتوح تعددي على الآخر» (ص40)، من أجل «التغيير» وليس «الثبات». فالنظامان السياسيان في شمال الوطن وجنوبه كانا معاً بـ»اشتباكهما أو اصطراعهما مع نفسيهما، ومع أطراف المجتمع، حيث كانا معا، بذلك السلوك السياسي يغلبان الاستمرار على التغيير، ويمنعان التطور السياسي التدريجي والطبيعي للنظام السياسي وللمجتمع» (ص41).
هل هناك «تطور طبيعي» دون صراع اجتماعي؟ وكأن التطور هنا تطور حتمي ميكانيكي تعيقه الصراعات. هنا يصبح «التطور الطبيعي» موسوماً بالغيبية!
يصف الباحث الحوار الذي جرى بين الرئيس إبراهيم الحمدي مع «أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الثوري وصل من عدن بناء على طلب الحمدي، والذي حدد بالأستاذ عبد الحميد حنيبر بدرجة أساسية إلى جانب عبد الحفيظ بهران» (ص42) بأنه مناورة من الحمدي بغرض امتصاص النقمة الشعبية! وباعتقادي أن وجود علاقة تنظيمية بين الحمدي والحزب الديمقراطي الثوري، من خلال علاقة تواصل تنظيمي خيطي بينه وبين عبد الحميد حنيبر منذ تأسس الحزب في يونيو 1968، كان هو المعزز والمشجع لفتح الحوار، وليس «المناور» و»امتصاص النقمة الشعبية»، فحضور الحمدي شعبياً تكرس من خلال العديد من المشاريع التنموية وبناء البنية التحتية، واستكمال أسس الدولة في الإدارة والشرطة والجيش، وصولاً إلى إعداد أدبيات وأوراق تنظيم «المؤتمر الشعبي العام» الذي حدد لها موعداً في ديسمبر 1977، فجاء اغتيال الحمدي ليؤجل الموعد، وليكون هناك مؤتمر شعبي تأسس في أغسطس 1982 بأدبيات ومحتوى إخواني.
لقد كانت التحولات الفعلية ممثلة في الخطة الخمسية لتأسيس البنية التحتية للدولة المركزية، في المجال التنموي والأمني والجيش والتعليم والحركة التعاونية ولجان التصحيح، هو الذي خلق قاعدة شعبية للحمدي، وليس الحوار مع الحزب الديمقراطي الثوري، ومن هنا فإن حوار الحمدي وتواصله مع عبد الحميد حنيبر يحتاج إلى تفسير آخر في سياق سعي الحمدي للتواصل مع مختلف القوى الوطنية ومن بينها الإخوان المسلمين. 
أما بالنسبة للناصريين، الذين يطلق عليهم الباحث تعبير «الجماعة السياسية الناصرية (التنظيم الناصري)» في دلالة لا تخفى على القارئ حين يتوقف مع وصفهم بـ»الجماعة السياسية الناصرية» بما يشي به هذا التوصيف من تحجيم، جماعة غير واضحة الملامح السياسية، فهم قد حسموا خيارهم في تبني أهداف حركة 13 يوينو 1974، منذ الإعلان عنها مباشرة من طرف واحد، بناء على تواصل وتوافق بينهم وبين الحمدي من قبل قيام الحركة، والبعض من قيادات الناصريين يعيد ذلك التواصل إلى عام 1973، لذلك اندمجوا مع خيارات الحمدي في بناء الدولة اندماجاً كلياً، وصولاً إلى انتخابه في المؤتمر العام الخامس الذي عقد في الحديدة عام 1977 عضواً في اللجنة المركزية، وعضواً في اللجنة التنفيذية.
يرى الباحث أن الدافع لقيام المؤتمر الشعبي العام في 23 أغسطس 1982 كان مصادرة الحياة الحزبية والتعددية الحزبية، «بفرض نفسه مظلة باسم جميع المكونات» (ص50)، وأنه «محاكاة لتجربة الجنوب، ولأن اتفاقية الوحدة وبيان الكويت يشيران إلى قضية التنظيم، ومن جانب آخر لترويج أنه مظلة سياسية ووطنية لجميع القوى السياسية في البلاد» (ص50). وبرغم صحة هذا التأويل إلاَّ أنه يظل جزئياً، فالحاجة إلى وجود تنظيم شعبي في الشمال بدأ مع «الاتحاد الشعبي الثوري» في عام 1966، في أواخر عهد السلال، لكنه كان هشاً ولم يستمر لأكثر من عام، لأنه نشأ بقرار فوقي، وليس انعكاساً لتنظيم شعبي يعبر عن حراك القوى الشعبية، وكذلك فإن قوى «مؤتمر خمر» (1965م) ذكرت في قرارات ذلك المؤتمر تشكيل «حزب الله»، ولوجود اعتراض عبّر عنه يومئذ محسن العيني الذي كان مشاركاً في المؤتمر، وعبد الكريم الإرياني، الذي كان يدرس في الولايات المتحدة الأمريكية وكان حاضراً بمشورته وآرائه، تم تسميته «المؤتمر الشعبي» تكيفاً مع حساسية الغرب وأمريكا تحديداً تجاه التسمية الأولى، فكان التوفيق أن تكون تسمية «حزب الله» للتداول الداخلي، وتسمية «المؤتمر الشعبي» للتداول العلني! وظل الصراع حول محتوى «المؤتمر الشعبي» هو الذي يميز طرفي النظام الجمهوري في شمال اليمن، بين رؤية السلال وجناحه الثوري الجمهوري، وجناح قوى «مؤتمر خمر».
إن الحاجة إلى تشكيل إطار تنظيمي شعبي ظل مطروحاً منذ بداية الستينيات، وإن الصراع كان حول القوى الشعبية التي يجب أن يمثلها وتمثله، هل هي التكتل الثوري الذي مثله السلال والقوى صاحبة المصلحة في التغيير، أم قوى «مؤتمر خمر» كتحالف بين قوى المشيخ والقضاة ورموز حزب الأحرار وكبار التجار وكبار الضباط وحزب البعث؟ لذلك جاء تأسيس المؤتمر الشعبي في أغسطس 1982 انتصاراً لنهج «مؤتمر خمر» ورؤيته ومقرراته.
إن القول بأن بقايا حزب الأحرار كانوا مع «مؤتمر خمر» وجناح «الجمهورية القبيلية» ليس دقيقاً، فالصحيح أن قادة ورموز حزب الأحرار كلهم تقريباً كانوا جزءاً أصيلاً من تكتل «مؤتمر خمر». إضافة إلى حزب البعث، الذي اتخذت قيادته في المؤتمر الذي عقد بعدن في نوفمبر 1963، وحضره عن القيادة القومية في دمشق مسعود الشابي، واتخذ المؤتمر آنذاك «قراراً بتدعيم التحالف مع القبائل والانخراط في المؤتمرات السياسية القبلية. وهو أخطر قرار سياسي في تاريخ حزب البعث، بدا معه وكأن حزب البعث يستدعي الانقسامات العمودية التقليدية إلى المجال السياسي في صراعه العقائدي السياسي مع القيادة المصرية والسلال، والتي تجسدت في اصطفاف البعث مع القبيلة وزعماء القبائل» (ص52).
بدلاً من ثنائية اليسار في تقسيمه للصراع إلى «تناقضات رئيسية وتناقضات ثانوية» يستخدم الباحث مرادفاً لها بقوله: «تناقض صراعي وتعارضات ثانوية»، وهذا من وجهة نظري تفسير وتبسيط للمصطلح الأول.
يرى الباحث أن الدور المصري انقسم بين ثلاثة اتجاهات متنافرة في إدارة الصراع في مجرى ثورة 26 سبتمبر، وهي «القيادة العسكرية بقيادة عبد الحكيم عامر الذي اصطف مع رموز القبيلة، والسادات الذي اصطف مع كبار التجار والكمبرادور، والدبلوماسية المصرية ممثلة بالسفارة والسفير أحمد شكري المنحازة كلياً للمشايخ ولرجال الأحرار». والحقيقة أن هذه القوى التي يعددها الباحث على أنها ثلاثة اتجاهات هي تعبير عن قوى خمر، أي أنها القوى التي أنجزت بعد ذلك انقلاب «جمهورية 5 نوفمبر». فهي قوى متحالفة ومتكتلة بحكم مصالحها، وليست قوى متنافرة ومتصارعة. ولو قال الباحث بأن الدور المصري كان موزعاً بين هذه القوى وبين التكتل الناصري بقيادة السلال لكان مقارباً للواقع.
... يتبع

أترك تعليقاً

التعليقات