ميلاد النبوة وتأسيس مجتمع الإخاء
 

محمد ناجي أحمد

في ذكرى مولد خير البرية، ضوء الثورات الروحية والمادية وبناء الأمم، واكتمالات الرسالات والكتب السماوية محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، نتذكر انطلاقته في المجتمع المكي الذي كان لحركة التجارة صيفاً وشتاءً أن أنعشته وراكمت ثرواته وبذخه، بعد أن ضعفت اليمن وتفككت بفعل الصراع على الزعامة.
كان المجتمع المكي متباين الطبقات، ومتوحشاً في أخلاق الاستقواء واستضعاف الضعفاء من الناس... عنصرياً في العرق واللون والمنطقة واللغة... مستكثراً من استرقاق العبيد والمستضعفين، ومباهياً بالأموال والأولاد.
ولد النبي العظيم في هذا الوسط من تكاثر الأموال والأصنام والمظالم، فكان مولده يتيم الأب ليكون متماهياً مع حياة المستضعفين وآلامهم.
بدأ دعوته بالمؤاخاة بين من يؤمنون برسالته من النساء والرجال، بخطاب سماوي من النواهي والأوامر الموجهة للذكور والإناث، للعربي والأعجمي والأبيض والأسود والغني والفقير.. آخى بين من عاش في كنفه كعلي عليه السلام وعمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، وبين من عاش في نعيم الثراء المكي كمصعب بن عمير ومن عاش آلام العبودية كبلال وعبد الله بن مسعود... إلخ.
إن رسالة الرسول الأعظم هي اكتمال الرسالات التي أرسلت عبر التاريخ رحمة للناس، فكان الكتاب المجيد والنبوة الشاملة للعالمين.
إذا كان هناك وصف موجز وشامل لهذه الرسالة الخالدة التي بُعث بها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، فهو أنها رسالة المؤاخاة بين العالمين كافة..
حين هاجر الرسول محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، إلى المدينة، مفارقاً بطش قريش كمجتمع تجاري يرفض الأخوة والمساواة ووحدانية الله، انتقل إلى مجتمع فلاحي أنهكته العصبيات المنتنة، فجاء الدين الحق ليؤاخي بينهم من أوس وخزرج وعرب، ولتكون صحيفة المدينة دستوراً وتعاقداً جامعاً للتعايش بين الشعوب والقبائل والأديان على أساس الدفاع عن الأرض والمصالح المشتركة واحترام المعتقدات، لكن اليهود أضمروا الخيانة والغدر بالعهود، ومحاولة قتل الرسالة والرسول، والتآمر مع الملأ من قريش وأحزابهم التي جلبوها لمحاصرة المدينة بغرض اقتحامها وسحق المسلمين فيها!
لقد كان المجتمع المديني على موعد مع من يطهرهم من العصبية النتنة، جامعاً بين المهاجرين ذوي المنشأ التجاري والمستضعفين، وبين مجتمع فلاحي هو مجتمع المدينة المنورة، لهذا فإن الرسول الأعظم نور سطع على تلك البقعة المباركة بهجرته إليها، ولتكون مركز النور الذي عم العالمين جميعاً.
كان بناء المجتمع المديني على أساس الدفاع عن الأرض والمصالح المشتركة واحترام العقيدة، وغير ذلك مما جاء في صحيفة المدينة التي عقدها الرسول بين كل مكونات المدينة المنورة، أي أنها كانت وثيقة دستورية مدنية نحو التعايش بين الشعوب والقبائل والأديان، لكن من أدمنوا خيانة أنبيائهم وقتلهم ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فكادوا لهذا الدين المرسل للناس كافة، ولنبينا الأعظم، وتآمروا مع مستكبري قريش، وأرادوا طعن الرسالة والرسول، فأخزاهم الله، فكان كيدهم هشاً أمام القدرة الإلهية التي أنزلت الذكر وحفظته.
إن رسالة المؤاخاة هي ذروة مكارم الأخلاق التي بُعث الرسول الأعظم متمماً لها.
الرسالة التي جاءت لتعالج القيم والأرواح في آن، لتعيد بناء المجتمع على أسس العدل والحرية والكرامة الإنسانية. الرسالة التي جاءت لتصف كل ظلم وكل اختلال اجتماعي واستكبار بأنه ظلم وظلمات يوم القيامة، واجتراء على عدالة الله في الأرض، الذي ساوى بين الناس في القدرة والتكليف والعقل، وجعل التقوى ميزان التفاضل والأكرمية (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
كان الرسول محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، قرآناً يمشي على الأرض بكل ما يحمله القرآن من أوامر ونواهٍ وقيم ورؤي كونية وحياتية وإعجاز قرآني لغة وفكرة وموقفاً...
من هنا يأتي الاحتفال بالمولد النبوي ناقوساً ينقل الأمة من الغياب إلى الشهود الحضاري في مقاومة ومقارعة المستكبرين في الأرض وعلى الناس، ودعوة لاستنهاض الهمم والقدرات، وتخلياً عن الذل والاستضعاف، احتفالاً بميلاد أمة ذات رسالة للعالمين، دون عصبوية قبلية أو عرقية أو جهوية، إنما رسالة كونية بلَّغها رسول كوني بإنسانيته التي جاءت لتعصم البشر من ظلم البشر، ولتمنع استغلال الناس للناس، ولتجعل العبودية لله الواحد القهار، الغالب على أمره الحق ولو كره الكافرون والمشركون والمنافقون...

أترك تعليقاً

التعليقات