محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

بثلاثة أجزاء من القطع الكبير، وبما يغطي (1211) صفحة، طبع ببنط صغير وأسطر متزاحمة تجهد نظر القارئ، وكان بإمكانه أن يتجاوز الـ«1500» لو طبع ببنط معقول؛ ذاك هو كتاب «قاموس العرف القبلي في اليمن» لمؤلفه الباحث أحمد الجبلي، والذي طبعه المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية -صنعاء،الطبعة الأولى 2019.

هو عمل موسوعي، لغوي واجتماعي، أخذ جهدا وصبرا ومقدرة تجميعية وتحليلية ونقدية من المؤلف، بما يذكرنا بالأعمال الموسوعية التي أنجزها علماء أخلصوا الجهد والغاية للمعرفة، ليصنعوا ضوءاً للقارئ، ووضوح رؤية لطبيعة تكوين الأمم، في أنساقها الاجتماعية والتاريخية المختلفة.
قليلون هم العلماء الذين يجمعون أكثر من طريق للمعرفة في تأليفهم لكتاب ما، ومن هؤلاء الأستاذ أحمد الجبلي في هذا الكتاب المسمى (قاموس العرف القبلي في اليمن) فقد كان امتدادا لعلماء ومحققين جمعوا بين علم اللغة والاجتماع والانثروبولوجيا والتاريخ في تأليفهم لكتبهم الخالدة. وأزعم أن كتاب (أحمد الجبلي ) آنف الذكر هو من هذه المؤلفات التي لا غنى للباحث وطالب العلم والمعرفة عن الرجوع إليها، والاقتباس منها، والتزود بها فإنها من خير الزاد الذي يثمر استكشافا ويقينا وحركة نحو المستقبل، بمعرفة جذورنا وعلاقاتنا وعوائدنا نحو طموحاتنا.
يبدأ الكتاب بـ(تمهيد) بلغ في حجمه نصف الجزء الأول، أي ما يقارب الـ(200) من مجموع الـ(407) صفحات هي عدد صفحات الجزء الأول من الكتاب.
و(التمهيد) هو كتاب مستقل بذاته كدراسة تحليلية ونقدية شاملة، يذكرنا بـ(مقدمة) ابن خلدون من حيث الإنجاز الذي أحال المقدمة إلى مؤلف بذاته يتصل بكتاب (العبر) ويتميز عنه في آن، وكذلك شأن تمهيد (الجبلي) الذي إن أطلقنا عليه اسم (التمهيد) لما بالغنا في التقريض.
ففيه من الإحاطة والشمول التحليلي والنقدي، والمراجعات الشاملة والمستقصية للدراسات الاجتماعية المتعلقة بموضوع دراسته ما يجعل تقريظنا توصيفا لم يجانف عين الحقيقة، مع تنبيهنا للعديد من مواضع الاختلاف مع الكتاب في يقينياته أو مواقفه الأيديولوجية التي قد يستسلم لها هنا أو هناك.

الإخاء بين العرف القبلي والإسلام
يدرس المؤلف مادة الإخاء في العرف القبلي، لكنني سأتوقف هنا عند هذا المفهوم في الإسلام، وهو بالتأكيد يختلف في منحاه وتصوره وغاياته عن مفهوم (الإخاء) في العرف القبلي في اليمن. وقد نبه الكاتب إلى ذلك في تمهيده.
(الحبل) هو العهد والميثاق والحِلف الجامع للأمة، على أسس القرابة والدين والجغرافيا والتاريخ والمشاعر والمصير. دون الاعتصام بالحبل الرابط لهذه الأمة، ينفرط وجودها وتتفرق أيديها، وتتكالب الأمم على جغرافيتها، فيطول شتاتها أجيالا وأجيالا.
ففي كتاب (قاموس العرف القبلي في اليمن) الجزء الأول: «الحبل: هو الرس، أي الحبل المعروف، وهو أيضا العهد والذمة والأمان وهو الجوار، وكذلك التواصل والوصال (الزبيدي: «حبل «28/263) وبمعنى العهد والأمان، يذهب بعض المفسرين للآية «واعتصموا بحبل الله جميعاً». ولو أن الإمام الطبري يذهب إلى أن للحبل معنى عاما هو «السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة» (الطبري 1992:12/94). فكما هو واضح، لا نعثر في العربية القاموسية على المعنى المقصود، أي الحلف، بل على المعنى العام (العهد) والذي من خلاله يمكن التوصل، بكل حق، إلى أن الحِلف من معاني الاصطلاح «حبل» (ص65-قاموس العرف القبلي في اليمن).
والحبل «حبل الجوار»، ومن هنا تكون التحالفات بين القبائل والشعوب برابطة الحبل، ويكون جوار الله هو العهد والعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ومن معاني الحلف والاعتصام، قوله تعالى «إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم»، أي أنهم حلف وعهد وميثاق واحد، ومن هنا فإن ما ذهب إليه الأستاذ أحمد الجبلي، من أن من معاني المؤاخاة «الحلف» دقيق اجتماعيا ولغويا.
لقد كانت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين حلفاً بين جماعتين، في إطار الانصهار في بوتقة واحدة هي المؤاخاة في المدينة، كجزء من مبدأ عام قرره القرآن «إنما المؤمنون إخوة» أو ربما يكون خطوة تدريجية نحوه.
كانت المؤاخاة التي أجراها الرسول (ص) بين المهاجرين والأنصار، بل بين العتقاء والأحرار، قائمة على أساس دعوته «تآخوا في الله أخوين أخوين» أي مؤاخاة فردية، تهدف إلى بناء كيان أمة متلاحم، مغاير للكيانات القبلية المبنية على العصبية، والانتصار للحليف ظالما أو مظلوماً. والرسول في نهجه هذا غايته بناء أمة أساسها الانتصار لمكارم الأخلاق، لا الانتصار لنتانة العصبيات القبلية (الجاهلية) بما يحيل إليه مفهوم الجاهلية من نسق اجتماعي وقيمي وزمني مختلف. وإن تعايشت الأخوة الفردية والجماعية في الإسلام مع طبيعة المجتمع القبلي، إلاَّ أن هذا التعايش كان بغرض التدرج والإحلال الزمني للقيم، بدلا من الصدام المباشر مع التكوينات الاجتماعية المتجذرة آنذاك. ويمكن العودة إلى تناول المؤلف لموضوع المؤاخاة في تمهيده للكتاب في الصفحات 70-75.
إذا كانت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين قد تمت قبل نزول قوله تعالى «إنما المؤمنون إخوة» وأبطل التوارث الذي يترتب على المؤاخاة، فإن ذلك يعد ارتقاء بمفهوم الأخوة من الأخوة بين الأفراد بالمعنى القرائبي والتوارثي، لتصبح الأمة كلها قرابة واحدة، وصلة رحم واحد هو «حبل الله» وعروته الوثقى.
يورد المؤلف أن المؤاخاة الفردية لم تنقطع بنزول آية «إنما المؤمنون إخوة»، فبعض الروايات تذكر أن الرسول (ص) آخى بين العباس ونوفل في وقت متأخر جدا (ابن هشام :4/19، 35) ص73- قاموس العرف القبلي في اليمن.
يبين المؤلف في كتابه آنف الذكر أن اختلاف مفهوم الأخوة في الإسلام وتميزه عن الحلف القبلي، بقوله: «أما في المؤاخاة فلم نعثر على أي قسم، ولا على أية طقوس جرت بين المتآخين. تختلف المؤاخاة عن الحلف القبلي من حيث المضمون. ولعله يكفي القول أن المؤاخاة كانت عقدا على الحق والمؤاساة والتناصر... مع امتلاء مفهوم «الحق» و»النصرة» و»التناصر» بمضمون لا يتطابق بمجمله مع مفهوم «الحق» بالمعنى الأخلاقي القبلي، وإنما فيه من العناصر التي لا تتفق، بل تتعارض بشدة والعرف القبلي (ص73-ج1-قاموس العرف القبلي).
«كان الحلف القبلي، عموماً علاقة عفوية، بينما المؤاخاة علاقة هادفة واعية ترمي إلى تحقيق حياة أخرى وتصبو إلى آفاق اجتماعية مرسومة مبدئيا.. ذلك ما ميز بشدة المؤاخاة عن الحلف القبلي المعهود» (ص74).

بيت الأحمر من «فقراء علم » إلى مشيخة خارف
يورد المؤلف ما ذكره «سرجنت» من أن بيت الأحمر كانوا «فقراء علم» قبل أن يصبحوا مشائخ و»تهجرهم «حاشد، وهو ما توارثوه حتى اليوم، ص131-ج1-قاموس العرف القبلي. لكن هذا القول ينقصه الإحالة لمرحلة ما قبل مشيختهم، أي مرحلة ما قبل الشيخ «علي الأحمر».
فبحسب كتاب «عصر الاستقلال عن الحكم العثماني من سنة 1056-1160هـ، يورد المؤلف حسام الدين الملقب بـ(أبوطالب) المتوفى سنة 1170هـ، وتحقيق عبد الله محمد الحبشي.1990، العديد من الحوادث بحسب تسلسل السنوات:
- وفي سنة 1121هجرية وجه الإمام بكيل بقيادة ابن حبيش وابن جزيلان لحرب حاشد وخراب حوث، وكان على رأس العصيمات آنذاك الشيخ محمد بن عبد الله الغريبي عم علي بن قاسم الأحمر. وبسبب اضطهاد الغريبي لعلي الأحمر، وعدم إعطائه مما يناله من مال بيت الدولة، فقد قام الأخير بخيانة عمه وساعد بكيل على شق بلاد العصيمات. ثم أصبح علي بن قاسم الأحمر هو شيخ العصيمات، وتحرك في سنة 1125 هجرية من قِبَل المهدي لأخذ حبور وبلاد ظلمة، ومحق علي الداعي عمله، فقام الحسن بن القاسم صنو الداعي الحسين بن القاسم في دفعه، فأضرب الأحمر عمّا أراد وآثر الرجوع.
- في سنة 1140 هجرية نكث علي بن القاسم الأحمر العهود التي كانت بينه وبين الإمام المنصور، وطمع في الاستقلال من جهته بالحصون والبلاد، فاحتال عليه الإمام المنصور الحسين بن المتوكل على الله. وحين تحرك الأحمر برجاله إلى «عَصِرْ» خرج إليه المنصور وطلبه إلى خيمته، وقد رتب قتله، فقام الأمير ذو الفقار بالقبض على فروته وطعنه بالجنبية، «فما نطق بعدها بحرف من الخطاب إلاّ أنه قال: عاب عاب وخرّ صريعا، وقد أمر المنصور عبده سلمان بقطع رأسه، وأخذ المنصور الرأس بيده وقال لأصحاب الأحمر: هذا صنمكم... ثم إن أصحاب الأحمر أمعنوا بعد هذا في الهرب وحملوا جسد الأحمر معهم إلى همدان، ثم أنفذوه إلى أهله بعد أن شفع في رأسه فردَّه إلى الجثمان».
وبعد علي الأحمر، كان شيخ العصيمات قاسم الأحمر، فحين عادت بكيل بعد نهبها بلاد آنس وأطراف عتمه وريمه سنة 1156 هجرية، وانتهبوا ما ظفروا واستاقوا حريما فتفادى أهلهن بمال جزيل. وحين مروا أثناء عودتهم من أرض لقاسم الأحمر كمن لهم مع رجاله يريد أخذ ما معهم من الأموال، فراح في هذا الاقتتال على المنهوبات 165 من حاشد و30 من بكيل، وجملة القتلى 280 نفساً.
فمن مقتبسنا من كتاب (أبو طالب) وهو يتحدث عن أحداث وتمردات القرين الحادي عشر والثاني عشر الهجري بين نجد أنه يشير إلى وصول الشيخ علي الأحمر، عن طريق خيانته لعمه شيخ العصيمات محمد بن عبد الله الغريبي، بأن ساعد بكيل على شق بلاد العصيمات!
ومن هذا المقتبس نجد أن ما ذكره أحمد الجبلي في كتابه (قاموس العرف القبلي) ج1 في وصفه لمقتل الشيخ علي قاسم الأحمر بأنه (عيب أسود) ويعدد ثلاثة أسباب لجعله عيباً أسود، ويذكر منها أن الشيخ علي الأحمر كان وسيطا بين الإمام الناصر محمد بن إسحاق والإمام «المنصور» حسين بن القاسم. فحين طلبه الإمام المنصور للمجيء من مكان تخييمهم في عصر غرب صنعاء، وكان مع الأحمر النقيب جزيلان، طلبه إلى خيمة قد أعدت لقتله، ثم أمر (ذو الفقار) بقتله. والحقيقة كما بيناها في مقتبسنا من كتاب (أبو طالب) القريب من أحداث تلك المرحلة، أن الإمام المنصور قتله غدرا لنكوث علي بن قاسم الأحمر للعهود التي كانت بينهم.

أترك تعليقاً

التعليقات