يسارية عبد الناصر ورجعية دراويشه
 

محمد ناجي أحمد

كان جمال عبد الناصر يردد في اجتماعات (طليعة الاشتراكيين) التي تأسست منتصف الستينيات: (أنا أكثر الجالسين يسارية)، وكان من ضمن الجالسين معه في الاجتماع الحزبي: إسماعيل صبري عبد الله، ومحمود العالم، وفؤاد مرسي من الحزب الشيوعي المصري الذي أعلن حل نفسه وانضمامه كأفراد في الحزب الطليعي.. وفي عبارات أخرى كان يردد ناصر أنه (أكثر اليساريين تطرفاً)، يتحدث خالد محيي الدين في مذكراته عن جمال عبد الناصر، وشغفه بقراءة ومتابعة كل جديد في الفكر الاشتراكي، وأنه كان يطلب منه أن يشتري له كل جديد نظري في هذا الفكر، لكنه يعيب عليه أنه وضع حواجز بينه وبين زملائه من الضباط الأحرار، حين طلب منهم بعد أن أصبح رئيساً أن يقفوا له احتراماً وتوقيراً، وهو ما يراه خالد محيي الدين صناعة للديكتاتور، مع أن ذلك يدخل ضمن مقتضيات بروتوكولات القيادة!
نعم، لقد كان ناصر يسارياً متطرفاً في إصراره على تحقيق العدالة الاجتماعية بمفهومها الاشتراكي، وأكثرهم وحدوية وفق خطوات علمية تؤسس لوحدة متينة من التعدد والتماسك، متجاوزة لأخطاء تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، فالعواطف وحدها لا تبني كياناً متماسكاً، ويمكن لبضعة ملايين سعودية ودور أردني ومؤامرة إسرائيلية أن تسقطها! لكن مشكلة ناصر أنه كان اليساري الفرد، ولم يكن اليساري المؤسسة! لهذا سرعان ما تم الانقلاب على مشروع الحرية والاشتراكية والوحدة مع نظام السادات وحسني مبارك.. لكن ذلك لا يعني أن عبد الناصر لم يكن متنبهاً لأهمية بناء الحزب الطليعي، لهذا عمل في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، على بناء الطليعة العربية بامتداد فروعه في الوطن العربي، وهو في رأيي ما أعطى للناصرية استمرارها في أكثر من قطر عربي، وإن ارتبطت الأحزاب الناصرية في الوطن العربي بعبد الناصر الكاريزمي، وكانت جذورها مرتبطة بالمخابرات المصرية، لا لأن الدور التحرري كان هو الوظيفة الرئيسية للمخابرات المصرية كجهاز معلوماتي وتنظيمي وعملياتي.. 
لقد استطاع عيسى محمد سيف نقل طليعة الاشتراكيين اليمنيين من كتبة تقارير للقيادة العربية - وكان واحداً منهم - إلى تنظيم مرتبط بالغايات الكبرى، ومع ارتباط عيسى بالقيادة العربية بتعز، لكنه كان ارتباطاً بمشروع تحرري واشتراكي ووحدوي، ولعل في المقابلة الصحفية لعبد الحميد الشعبي - وهو من قيادات حركة القوميين العرب - في صحيفة (النداء)، وفي لقاءات شخصية قمت بعملها مع حركيين وشيوعيين يمنيين، ما يؤكد إنسانية ووعي عيسى محمد سيف إزاء المختلفين معه. فحين علم أن هناك أمر اعتقال للشعبي، نبهه كي يختفي عن أنظار القيادة العربية.
الإيمان بالمشروع القومي بجوهره التحرري الاشتراكي الوحدوي، يؤدي إلى ديمومة الفكرة وجدلها مع الواقع بما يحقق آمال وتطلعات تحالف القوى المنتجة، لكن الإيمان بالأشخاص سرعان ما يسقط ولاء إلى النقيض، وذلك ما يحدث اليوم مع الكثير من القوميين الذين تساقطوا تحت سنابك إبل الصحراء وفتات محطات البنزين، ومشيخات حراسة المصالح الغربية.

أترك تعليقاً

التعليقات