الأمركة وتفتيت الأمم
 

محمد ناجي أحمد

منذ عقد السبعينيات والولايات المتحدة الأمريكية تخطط وتنفذ مشروعها في إعادة بناء العالم وفق سيطرتها وهيمنتها، وبعد أن تحقق لها إزالة العائق المتمثل بالاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية مع سقوط حائط برلين عام 1989م، أسفرت عن غايتها من خلال تسويقها لمصطلح (النظام الدولي الجديد)، والذي تحول اسمه إلى مصطلح (العولمة)، فالمصطلح الأخير يتميز بالغموض والاقتصاد في الكلمات، وهو يتكون من كلمة واحدة، ويتميز ببريق التقنية، ويخفي وراءه (إعادة إنتاج نظام هيمنة جديد تحت شعار العولمة)، وتعمل التطورات التقانية الحديثة في مجال الإعلام ووسائطه المعلوماتية، الذي يشمل الإليكترونيات الحديثة وتطبيقاتها المتلاحقة والمختلفة، والتي لا تقف عند وسائط التواصل الاجتماعي فحسب، لكنها تشمل وسائل (القتل النظيف) من خلال استخدام أحدث الطائرات المقاتلة لتقنية تحديد الإحداثيات وضربها، وتقديم صور نظيفة وممتعة، خالية من الدماء! بعد أن أزاحت الصورة الحقيقية التي فيها قتل للمدنيين، وتدمير للمدن، ليحل بدلا عنها صورة متخيلة، ومؤثرة تقانياً على المتلقي، الذي تم إعادة تصنيعه كمتلقٍّ مسترخٍ وبعواطف إليكترونية بصرية، سريعة التحول، أي متلقٍ عابر للعواطف، في ظل هيمنة مادية، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، عابرة للسيادة وللقوميات! فالنظام الأمريكي الجديد، الذي أعلن عنه جورج بوش الأب مطلع التسعينيات جسد (معنى الاستعلاء، واحتواء العالم)، وفق نمط الحياة الأمريكية، مما جعل من العولمة (لا تعدو كونها أيديولوجية جديدة نظير سابقتيها)، (نهاية العالم) و(صراع الحضارات)! وهي أيديولوجيات تفرخت داخل ماكينة وزارة الخارجية الأمريكية ومستشاري البيت الأبيض والأمن القومي الأمريكي! 
لقد أراد الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، بدعوى إسقاط الشمولية والتسلط، أن يسقط قيم العدالة الاجتماعية وأيديولوجياتها، لكن القيم لا تموت ولا تسقط (فكيف تسقط هذه القيم التي تعبر في الواقع عن أشواق الإنسانية منذ فجر التاريخ إلى الحرية والعدل)، وهو ما صار واضحا من خلال كتابي (نهاية التاريخ) و(صراع الحضارات)، ومحاولتهما تقديم الرأسمالية كديانة إنسانية إلى أبد الآبدين! على حد تعبير السيد ياسين.
فالعولمة هنا ليست سوى (رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملة على مستوى النمط ومظاهره)، أي أنها على حد تعبير صادق جلال العظم (وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريبا إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة إنتاج ذاتها)، ومع ذلك لم يستطع صادق جلال العظم أن يواصل صلابته تجاه الأمركة، فمع رياح (ربيع العولمة) صار العظم ورقة يابسة تتجه باتجاه الريح الشرق أوسطية، وربيع الانتماءات القاتلة!
تتم مصادرة رغيف الخبز باسم الحرية، مع أن البطون الخاوية تتأبد في عبوديتها، لكننا في زمن الوهم بديلا عن حقائق الأشياء! والصور السريعة بديلا عن الوقوف على أطلال ما دمرته ماكينة الحرب وتجارة السلاح!
لم تأتِ العولمة الغربية لتصنع عالما بلا أبواب كما تروج لها فضائياتهم، بل جاءت من أجل إزالة القيود من أمام حركة الأموال، ووضع ألف جدار وجدار أمام حركة الأيدي العاملة، مشيِّئة لقوة العمل باغتراب لم تصل إليه رأسمالية القرن التاسع عشر. لقد جاءت العولمة الغربية /الأمريكية من أجل إسقاط الأيديولوجيات الاجتماعية، والسيادات القومية، وإنعاش الانتماءات الوهمية ؛من مذهبيات وطائفيات وعرقيات وجهويات، في علاقة طردية مع النظام الأمريكي الجديد واتساع سطوته!
لقد وظفت الأمركة /العولمة قنوات الفضاء والإلكترونيات وحواسيب وإنترنت ووسائل اتصالات متقدمة، وعلوماً فيزيائية وجينية وبيئية وعلوماً اجتماعية وخرائط سكانية /جغرافية، إثنية وثقافية، وتحركت بما تملكه من قوة وكيانات تابعة لإعادة رسم المصالح والخرائط والصراعات بما يخدم استمرارية وتوسيع هيمنتها، وككل استعمار تأتي الثقافة وإعادة برمجة العقول من ضمن أدواتها في جعل العبودية تبدو بملامح خادعة على أنها الحرية، فما يسمى (قابلية الشعوب للاستعمار) ليس سوى نتيجة لجهد سينمائي وإعلامي وثقافي، يأتي معضدا بالقوة المادية لأمريكا والغرب!
تزعم الأمركة /العولمة أنها جاءت لإزالة الحواجز التي تعيق حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على مستوى العالم، وهو زعم مغاير لحقيقة بناء الجدران العازلة بين البلدان، ليس فقط بين الولايات المتحدة الأمريكية وجارتها المكسيك، ولكن بين كل الفقراء والأغنياء! وأما بالنسبة للمعلومات فإن التحكم بوسائطها من فضائيات وصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، والسينما، إلخ، كلها تشير إلى تحكم وضخ لمنتج وحيد، ولمستهلك صنعته هذه الوسائط، وتحكمت بردود أفعاله، وعواطفه ومواقفه! وأما حركة المنتجات فإن التنافس محتكر بين الشركات متعدية الجنسيات، والتي تمثل 10% من حجم الشركات في العالم، وتتحكم بما نسبته 80% من حركة الصادرات، وهي مدعومة بسطوة سياسية وقدرات عسكرية وتقنيات اتصالات حديثة، يأتي على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحكم  بأسعار النفط، وغيرها من الثروات الطبيعية، وتعمل على إغراق أسعارها، وتنتصر لنظام اقتصاد السوق، وتحرير التجارة بأسوأ أدوات توحشها سياسيا واقتصاديا وثقافيا، إنها (الرأسمالية الكوكبية) كما يصفها الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، فما يزيد على ثلاثة أرباع النشاط المعولم تسيطر عليه الدول الصناعية المتقدمة في الغرب.
إن نقل المعلومات ليس متاحا كما يروج له، ولكن الحجب والمنع والمتاح يظل حكرا على الشركات المتعدية للجنسيات، مما يعزز مصالحهم، مستخدمين في ذلك مؤسسات منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي كمؤسسات للأمركة، التي جوهرها هجاء الحدود، أرضا وثقافة وسوقا!
إن الواقع الموضوعي لتطور الرأسمالية تاريخيا يؤكد أن خلف (عالم بلا حدود) ليس سوى أيديولوجية أمريكية، الهدف منها إزاحة الدولة القومية، والسيادة القومية.
عن طريقها، مما يجعل الأرض والسوق والثقافة بلا حدود سوى ما تراه أمريكا حدا لا يجوز المساس به، كجدران عازلة واحتكارات تقانية، وبراءات اختراع في مجال الزراعة والدواء، وتقنين الحقوق الفكرية لبراءة الاختراع، مما يجعلها احتكارية للغرب، من هنا تصبح كل الدعاوى الأيديولوجية التي تسوِّق الأمركة باسم العولمة، ليست سوى تزييف للوعي والحقيقة الموضوعية للرأسمالية المتوحشة، فتفسيرالأمركة /العولمة بالانتقال من الدولة القومية إلى رحاب العالمية، ومن الولاءات القومية إلى الولاءات الإنسانية، ومن اللاعقل إلى العقلانية وانسياب الأفكار والتقنيات، وسيادة مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية إلخ، كل ذلك لا يعد سوى أساطير وأوهام يتم من خلالها تمرير (التوحش) بنعومة الاستجابة والتلقي!
يبدو أن القرى الضيقة بوعيها العشائري والقبلي، لا تتناقض مع (القرية الكونية) الأمريكية، بل تصب في خدمتها!

أترك تعليقاً

التعليقات