عن إمام ورئيس 1-2
 

محمد ناجي أحمد

كباقي الوشم في ظاهر اليد.. 
لماذا حرصت السعودية على طمس بيوت الرئيس علي عبد الله صالح؟ ما الذي تريد محوه من الذاكرة؟
7 سنوات وهو يقول إنه سيتفرغ لكتابة مذكراته، ويبدو أنه تفرغ للإضافة الفعلية لها، لا لكتابتها...
كان ينتظر أن يضيف إليها المشهد الأخير لـ40 سنة من الحكم والشراكة، ونسي أن الفصل الأخير من الدراما متى ما انتهت خاتمته يصبح غير متاح تسويد وتبييض تلك الذاكرة كتابياً.
مقال حازم صاغية عن موت صالح، الذي عنونه بـ(علي عبد الله صالح، لا يموت إلا قنصاً)، رغم احتفاء الكثيرين به، لم يكن تحليلاً دقيقاً لسيرة ونفسية صالح. كان مقالاً يمزج بين الإنشاء والتوصيف الظاهري.
حاكمان تركا بصماتهما على تاريخ اليمن، هما الإمام يحيى والرئيس صالح.
الأول كان عالماً مجتهداً وأديباً ومثقفاً بمقاييس محيطه العربي والإسلامي، والثاني كان سياسياً بمقاييس التكوين الاجتماعي اليمني، يتميز برغبة شديدة باكتساب الخبرات، وبذاكرة اجتماعية وجغرافية تمتد زمناً حتى منتصف الخمسينيات حين كان جندياً بفرقة القناصة، التي شتتها الإمام أحمد موزعاً إياها في الأقضية والنواحي، بسبب اشتراكهم بانقلاب أحمد الثلايا عام ١٩٥٥م، ومحاصرتهم لقصره، فكانت ناحية آنس في ذمار من نصيب صالح، ليعمل فيها جندياً من جنود الضبط القضائي.
كان في آنس يأخذ التنافيذ على الرعية (أوامر الاستدعاء إلى العامل أو القاضي) من زملائه العسكر مقابل مناصفتهم الأجرة التي سيأخذها من الرعوي؛ لعل هذه هي بداية تشكل مفهوم الشراكة الذي نما معه عبر العقود، لتكون شراكته مع (رؤوس الثعابين) أي قوى الدين السياسي والقبيلة السياسية وكبار التجار والضباط، من هذا الإرث الذي تطور معه عبر الزمن.
هل كانت الجندية متجذرة فيه؟
لقد وصفه الرئيس إبراهيم الحمدي بتيس الضباط لسرعة استجابته وإنجازه، واقتناصه للفرص في لحظات تنم عن ذكاء أكثر مما تنم عن شجاعة. فبعد قيام حركة ١٣ يونيو ١٩٧٤م كان تواصل علي عبد الله صالح بالرئيس الحمدي وتبليغه عن قيام قائد لواء تعز ومعسكر خالد (أبو لحوم) بالتخطيط للانقلاب على حركة التصحيح. كان وقتها صالح قائد كتيبة في المعسكر، وجهه الحمدي بالقبض على أبو لحوم والضباط المتعاونين معه، فتحرك بكتيبته وقبض عليهم، ليكون قائداً للواء تعز ومعسكر خالد.
هل كان صادقاً أم كاذباً في موضوع تدبير آل أبو لحوم لانقلاب ضد الحمدي؟
هذا ليس مهماً، ما هو مهم هو مهارته في الصعود بوعي وتحرك مكيافللي.
أوصى الإمام الزاهد المتقشف الرباني المؤيد بالله محمد بن إسماعيل بن القاسم، في وصاياه اليومية التي حققها عبد الله الحبشي في كتاب، بإعطاء حارسه الشخصي (الحرسي) (عفاشي) مبلغاً من المال. كان (عفاشي) من سنحان، فهل هو جذر الجندية للرئيس عفاش؟
تمتد ذاكرته الجغرافية لتشمل عديد جغرافيات وثقافات يمنية، لهذا كان يتفاخر دوماً بالقول إن الصحفيين لا يعرفون وطنهم بتعدده الجغرافي والثقافي...
كلاهما؛ أي الإمام يحيى والرئيس صالح، استطاعا الاستمرار في الحكم لعقود.
30 عاماً هي مدة حكم الإمام يحيى منذ دخوله صنعاء في بداية نوفمبر ١٩١٨م، و40 عاماً هي مدة حكم الرئيس صالح، منها ٣٣ سنة رئيساً و٧ سنوات شريكاً في الحكم...
ويشتركان كذلك في شدة الحذر وسرعة البديهة، ومداراة السعودية ومماطلتها وعدم الحسم معها بخصوص الحقوق التاريخية في موضوع الأراضي المتنازع عليه، فلا يكون التسليم للسعودية إلا إكراهاً حين تزداد الضغوط. فالإمام يحيى ماطل السعودية في وضع علامات حدودية حتى عام ١٩٣٥م، حين فشلت محاولة لاغتيال الملك عبد العزيز بن سعود، قام بتنفيذها 3 من أبناء حاضر في سنحان من لواء صنعاء، وقد اتهم بتدبيرها دون علم والده سيف الإسلام أحمد. كان وفد الإمام في مفاوضات اتفاقية الطائف يترأسه عبد الله الوزير الذي كان متواطئاً ومتهاوناً مع الملك عبد العزيز طمعاً في دعمه ليكون إماماً لليمن.
وكان رئيس الوفد المفاوض ومن بيده ملف المفاوضات اليمنية السعودية من طرف الرئيس صالح، هو الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، رئيس مجلس النواب، الذي كان منحازاً للسعودية على حساب الحقوق التاريخية اليمنية، بل إنه اعتكف عام ١٩٩٥م في السعودية لمدة شهر رافضاً العودة حتى تتم تسوية ملف الحدود وفقاً لادعاءات ومطامع السعودية، فحين كان الرئيس صالح يصرح في ذلك العام بوجود حشود عسكرية سعودية على الحدود، كان الشيخ الأحمر ينفي ذلك، ويشبه رئيسه بسلوك الإمام يحيى مع مبعوثه عبد الله الوزير، بل أكثر من ذلك يشبه الشيخ الأحمر في مذكراته أن الأخوة مع السعودية أهم من حفنة هنا وحفنة هناك من الرمال! وقد ذكر ذلك في حوار أجراه معه رياض نجيب الريس، ونشر في كتاب (رياح الجنوب) عام ١٩٩٨م. فالحقوق التاريخية للأراضي اليمنية ليست سوى حفنة هنا وهناك من الرمال عند الشيخ الأحمر، الذي كان يمثل مطالب ومطامع السعودية أكثر من تمثيله للسيادة اليمنية!
ومع ضغوط الشيخ الأحمر شيخ حاشد، والمشائخ الذين تحركهم السعودية وتجنسهم في الأراضي المتاخمة لها، بل وكبار مشائخ حاشد وبكيل، وتدخل الإدارة الأمريكية لصالح السعودية في ضرورة حسم مسألة الحدود دون التمسك بالحقوق التاريخية، والتخلي عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) التي ظل صالح يرددها، خضوعاً لكل تلك الضغوط كان ترسيم الحدود في معاهدة جدة عام ٢٠٠٠م. 
إلا أن الإمام يحيى يتميز بالوفاء بالعهود والمواثيق، وبالابتعاد عن استقطابات المحاور، فقد نأى باليمن عن استقطابات الغرب والشرق، وظل محافظاً على استقلال اليمن وقراره. ويتصف الرئيس صالح بالمكر والانقلاب على حلفائه متى ما واتته الفرصة اقتنص نقطة ضعف شريكه ليسقطه أرضاً، وكان في قراراته وتوجهه ضمن سياسة المحور الغربي، بل إنه اسْتُقْطِب من قِبَل المخابرات الأمريكية عام ١٩٧٣م، حين كان قائد كتيبة في معسكر خالد، وكان يتردد على (أديس أبابا)، وهناك تم استقطابه، فقد كانت (أديس أبابا) وكراً لنشاط المخابرات الأمريكية في البحر الأحمر.
وصل الإمام إلى الحكم من خلال توفر شروط الإمامة الأربعة عشر فيه، من خلال مبايعته من العلماء ورموز المكونات الاجتماعية عام ١٩٠٥م، ليواصل حرب التحرير ضد الأتراك، في استكمال لما أنجزه أبوه الإمام محمد حميد الدين.
ووصل الرئيس علي عبد الله صالح إلى الحكم بعد عملية اغتيال للرئيس الحمدي اشترك فيها المحيط الدولي والإقليمي والمحلي، ليكون أحمد الغشمي رئيساً، ثم يغتال بعد بضعة أشهر بلغم أودى به وبرسول الرئيس سالم ربيع علي (سالمين)، المعروف بلقب (تفاريش) الروسية؛ أي الرفيق، وقد قيل حينها بأن خصوم سالمين في عدن استبدلوا الشخص الذي أرسله (سالمين) بشخصية انتحارية اسمه (مهدي) ولقبه (تفاريش)، وهو شخص متقلب الأمزجة، كان يردد بأنه يريد أن يقتل شخصية كبيرة، وتفاريش هذا كان قد شارك مع الفصائل الفلسطينية بلبنان. وهي حكايات لشخصية غامضة، مما يؤكد ما أذهب إليه من أن اغتيال الرئيس أحمد الغشمي قد تم من مكتبه، وبإشراف محمد خميس رجل السعودية الذي عمل على تأسيس الأمن القومي وما عرف بعد ذلك بالأمن الوطني، فتبديل الحقيبة بأخرى فيها متفجرات أودت بالغشمي ورسول (سالمين)، فالغشمي لم يكن رجل أمريكا والسعودية الذي يعتمد عليه في المنطقة، وقد عرف عنه استمراره بسياسة حركة ١٣ يونيو بالنسبة لموقفه غير العدائي مع الناصريين، فقد كان يطلقهم إذا اعتقلتهم أجهزة الأمن مردداً (اطلقوا أصحابي)، وكان مع استمرار القيادات الشعبية للحركة التعاونية بأن تسير على نهج الحمدي، واستمر رافضاً عودة المشائخ المعتكفين في خارف إلى صنعاء، سواء مشائخ القبيلة السياسية أو الإسلام السياسي الذين احتشدوا في خمر ضد الحمدي. فكان علي عبد الله صالح - المعبر عن المرحلة ومتطلباتها وتحالف قواها محلياً وإقليمياً ودولياً - رئيساً لما كان يسمى وقتها الجمهورية العربية اليمنية.

أترك تعليقاً

التعليقات