تزوير التاريخ بالقص
 

محمد ناجي أحمد

التاريخ شكل من أشكال القص، هو سرد يعيد بناء الأحداث وفقاً لمنظور المنتصر.
حين انتصرت السردية السبتمبرية كان من اللازم إعادة كتابة تاريخ المملكة المتوكلية وفقاً لمتغيرات الواقع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
في هذا السياق تأتي أعمال زيد مطيع دماج في ثلاثيته (الرهينة والمدفع الأصفر والمدرسة الأحمدية)، مضافاً إليه الانبهار والدهشة، لتشكل الرديف الحكائي والقصصي لخطاب (حزب الأحرار والجمعية اليمانية الكبرى).
ومع سيطرة قوى جمهورية 5 نوفمبر 1967م من (المشيخ وكبار الضباط والبعثيين) الذين جمعهم مؤتمر عمران 1964م ومؤتمر خمر 1965م، كان انتصارهم وغلبتهم على الحكم يقتضي بموازاته إعادة الاستيلاء على الذاكرة الجمعية من خلال سيل من (المذكرات والشهادات) من منظور الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر والشيخ سنان أبو لحوم واللواء حسين المسوري و(رمال) محسن العيني ومذكرات القاضي عبد الرحمن الإرياني والأستاذ النعمان، وغيرها عشرات المذكرات، ليكون التاريخ محوره المتكلم، وصانعه قوى مؤتمر خمر ومقرراته وأدبياته، مع تفاوت في ما بينهم في إعطاء المهمش والمقصي دوراً هامشياً في الدفاع عن صنعاء أثناء حصار السبعين يوماً. فكما كانت الإمامة شراً مطلقاً لدى أغلبهم، تأتي سردياتهم عن أبطال السبعين يوماً من شباب القوات المسلحة والأمن في الصاعقة والمظلات والمشاة والمدفعية.. إلخ، في صورة سلبية، ويتم توصيفهم على أنهم أدوات لقوى الخارج!
على هذا النهج في التحيزات والاستيلاء على الذاكرة الجمعية، تأتي أعمال محمد الغربي عمران في روايتيه (مصحف أحمر) و(مسامرة الموتى)، لتزيح التاريخ من أمام القص المتحيز وفقاً لسردية (الجبهة الإسلامية) التي قدمت إعلامياً ودعوياً صورة مشوهة (للجبهة الوطنية 1976-1982م) كجبهة لتخريب العقيدة والوطن والأخلاق... من خلال ما تتبناه الرواية من محاكمة مباشرة لليسار مجسداً في شخصية (تبعة)، فحيادية المؤلف كانت غائبة، وهي ترسم لنا خطاب (تبعة) وحياتها، على عكس رواية (وردة) لصنع الله إبراهيم، التي قدمت تسجيلاً سردياً لجبهة ظفار ورفاق جمهورية اليمن الديمقراطية...
وعلى ذات النسق من التحيزات المذهبية في تقديم الدولة الفاطمية بمصر دعوة وممارسة في الحكم على أنها غريبة الأطوار تتجسد في شخصية (الحاكم بأمر الله) الذي قُدِّم ووصف بكل ما هو قبيح، تأتي رواية (مسامرة الموتى) للغربي عمران، لتعمل على نسف الصورة البهية والمشرقة لتاريخ الصليحيين والملكة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي، ولتعمل الرواية على تقديمها (غريبة الأطوار) ذات عقيدة لادينية، ومتعددة الوجوه. فهي على المستوى الأخلاقي والسياسي تدير الحكم بسلسلة من الاغتيالات التي تشمل زوجها المكرم وابنيها علي ومحمد والسلطان سبأ، وغيرهم من الأمراء والقادة، والمقربين والمقربات منها، واستغلال الرغبات الجنسية في السيطرة على مقاليد الحكم، ببوليسية تجمع بين أسوأ ما في أنظمة التسلط والشمولية.
ولا يقف التشويه لتاريخ الملكة أروى، لكنه ينال تاريخ الدولة الصليحية والفاطمية في العقيدة والسياسة، بشكل يوحي بدوافع مذهبية كامنة وجلية!
لم تكن الملكة الحرة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي نموذجاً لازدهار واستقرار اليمن زراعياً وتجارياً ووحدوياً، لكنها في الرواية تدير شبكة من الجواسيس، هم جواريها وغلمانها وعبيدها، تقوم من خلالهم بكل الأعمال الوحشية التي تذكرنا بأعتى الأنظمة التسلطية والشمولية.
إنه العقل المذهبي الذي كان محركاً للغربي عمران في مصحفه الأحمر ومسامراته المذهبية، التي ما إن تلمس التاريخ حتى تحيله إلى كومة من الأكاذيب!
لم أتحدث عن (مسامرة الموتى) فنياً، فذلك شأن آخر.

أترك تعليقاً

التعليقات