الإمام أحمد وحكايات العمراني
 

محمد ناجي أحمد

لقد كان الإمام أحمد يحيى حميد الدين يحب الفكاهة والظرافة والمفارقات الضاحكة، أكانت مشهداً أو حكاية أو موقفاً مسرحياً، فلقد تميز منذ كان في حجة ثم في صنعاء وتعز بروحه المرحة، ولديه قدرة على ابتكار المشاهد والعبارات الضاحكة، وسرعة بديهة وتمكن في فهم المواقف وخلفياتها، والاستفادة منها في الخروج من المآزق. وتميز بقدرة فذة في معرفة الرجال، ونفسياتهم، وتقييمهم.
يروي القاضي محمد بن إسماعيل العمراني في كتابه (قصص وحكايات من اليمن)، والتي دونها أحد تلاميذه، ونشرها في كتاب عن دار الإيمان في الإسكندرية عام 2003م، لتلامذته، حكاية رجل شرب الخمر فسكر، وذهب إلى أحد الشيوخ ليعقد له على ولد، ومعه الطبنجة موجهة نحو الشيخ، فما كان من الشيخ إلاّ أن تمتم بكلام، موهماً له بأنه قد عقد له. وحين خرج السكران قال للناس: قد عقد لي الشيخ على هذا الولد. فسأل الناس الشيخ: على أي مذهب عقدت له؟ أجابهم (على مذهب الطبنجة).. وهكذا كانت كتابة التاريخ القديم والحديث في اليمن (على مذهب الطبنجة) المنتصرة، التي تكتب التاريخ كفيما شاءت رغباتها.
لقد تأسس التاريخ الحديث لليمن في مرحلة مجايلة لمصر. ففي مصر كان عام 1919م تاريخاً فارقاً وحيوياً بالنسبة للشعب المصري الذي أنجز ثورة الدستور بانتفاضة شعب جعل الإنجليز في مخنق حقيقي. وفي الجزيرة العربية والعراق وسوريا كان هذا التاريخ نهاية للاستعمار العثماني، وإذا كان الاستعمار الإنجليزي والفرنسي قد ورث (الرجل المريض) هناك، فإن اليمن كمقبرة للغزاة، كان استقلالها برحيل آخر جندي من اليمن أواخر عام 1918م، ومع عام 1919م كان الإمام يحيى يؤسس الكيان اليمني المستقل باسم المملكة المتوكلية اليمنية...
من هنا فإن التاريخ اليمني الفاعل والحيوي يبدأ من عام 1918م لينتهي عام 1994م، كقرن حدث فيه من التحولات ما يجعل قراءة الفكر السياسي ملزماً بالتعامل مع هذه العقود ككتلة واحدة.
لم تكتفِ جمهورية 5 نوفمبر 1967م بسحل المعارضين لها أكانوا سبتمبريين أو إماميين أو ملكيين، لكنها استولت أيضاً على الذاكرة، وزيفت التاريخ، فجمعت بين تفيد السلطة والتاريخ، ووارت بالرصاص والإخفاء القسري، والسحل، كل مناوئ لها. ولسان حالها ما قاله أبو العلا المعري:
حكوا باطلاً وانتضوا صارماً 
وقالوا: صدقنا، فقلنا نعم
لهذا ليس غريباً أن يستعين النوفمبريون في تفيدهم للتاريخ والذاكرة، ودحر الآخرين إلى عالم النسيان، بكُتَّاب من اليسار واليمين كي يضعوا الأكاذيب وسحر البيان وبسالة الادعاء على ألسنة النوفمبريين.
فمذكرات الشيخين (سنان أبو لحوم وعبد الله بن حسين الأحمر) صاغها حذفاً وإضافةً وتقديماً وتأخيراً، وإرجاءً ومحواً، الدكتور عبد الكريم قاسم ونصر طه مصطفى، حتى إن القارئ ليقف متعجباً ومتألماً حين يجد عبارة شكسبيرية ترد على لسان سنان أبو لحوم في خمسينيات القرن العشرين، كما ورد في مذكراته، في تقمص لدور الجمهوري الذي لا يلين، بقوله تعبيراً عن صراعهم مع الإمام أحمد (نكون أو لا نكون)، متناسياً أنه من أبرز مشائخ (القوى الثالثة) التي ذهبت إلى السعودية عام 1964م، وأعلنت بيان الطائف الذي تخلت فيه عن النظام الجمهوري، ليحل بدلاً عنه في بيانهم تسمية لنظام بلا ملامح هي (الدولة الإسلامية)، في طعنة للأهداف السبتمبرية، وللدور القومي لمصر عبد الناصر.
عودة إلى حكايات القاضي محمد بن إسماعيل العمراني والإمام أحمد، يروي العمراني أنه دخل على الإمام أحمد قبل الثورة في (تعز)، فلما دخل إلى المجلس، قال له الإمام أحمد: أهلاً بأخ الأب أبصرني؛ أي (العم رآني)، فقال له العمراني: هو بين يديكم. فأعجب الإمام أحمد من سرعة فهم القاضي. لكن الحاضرين في المجلس قالوا: كان المفروض أن يجيب عليك بأحجية مثل استقبالك له بأحجية؟ فالتفت إليه الإمام أحمد وقال: صحيح، ما لك لا تجيب بأحجية؟ فقال العمراني: كنت سأجيب بقولي (المش سارق)، لكني وجدتها غير مناسبة لمقامكم، فضحك الإمام وأعجبه القاضي. فكلمة (مش) بلغة صنعاء (المخ)، وسارق (لص)، ومجموعهما (مخلص) [مش سارق].
ويحكي العمراني في كتابه هذا شغف الإمام أحمد بجمع الثعابين منذ أن كان ولياً للعهد. ففي يوم خرج فيه للنزهة، فوجد ثعباناً كبيراً، فأمسك به، ونادى الحرسي (الحارس)، وطلب منه أن يبقيه معه. وحين اجتمع مجلسه بعد العصر بالعلماء والكتاب، نادى الإمام أحمد على (الحرسي) وقال: هات الوديعة (أي الثعبان)، وحين أخرجه الإمام من الشال وأطلقه في المجلس، تقافز الحاضرون وهرب من هرب، فوجه الإمام أحمد الثعبان ناحية القاضي حسن تقي (حسن بن أحمد بن حسن تقي)، وقد كان أديباً وكاتباً وملازماً للإمام أحمد منذ كان في حجة وصنعاء ثم تعز، وكان القاضي حسن تقي يخاف كثيراً من الثعابين، فأخرج الجنبية وقال: يا مولانا والله أشرع بك قبل الحنش ما يقتلني! فضحك الإمام أحمد وأمسك بالحنش.
وحكاية القاضي عبد الله بن عبد الوهاب الشماحي، الذي طلب الإمام يحيى منه أن يقوم بتدريس ابنه سيف الإسلام أحمد في حجة، فكان يذهب إلى مقام ولي العهد فيدرسه، ثم يعود. وكان مع سيف الإسلام أحمد أسد له سايس يسوسه، وذات يوم جاء الشماحي، ودخل المقام وجلس، وكان يرتدي زيّاً يشبه ما يلبسه ولي العهد، فأراد ولي العهد أحمد مداعبة الشماحي، وطلب من السايس أن يفتح للأسد باب القفص، وتحرك الأسد فجلس في حجر الشماحي ظناً منه أنه ولي العهد أحمد، فارتعش الشماحي وتصبب عرقاً، ولم يستطع حراكاً ونطقاً. وحين أعاد السايس الأسد إلى قفصه انتفض الشماحي، وقام من مكانه غاضباً أشد الغضب، وصاح: أنا جيت أُعلم ولد الإمام، أم جئت أُعلم سرسري (سرسري بلغة صنعاء: الحقير التافه)؟ من أراد أن يتعلم يأتي عندي، وأنا بعد الآن لن أحضر عند أحد. وانطلق لا يلوي على شيء، وسيف الإسلام أحمد يضحك.
ويبدو أن سرعة البديهة قد ورثها الإمام أحمد عن أبيه الإمام يحيى.
يروي القاضي العمراني حكاية اليهودي الذي جاء يتقاضى ديناً من النبي، ولم يكن اليوم الذي فيه موعد سداد الدين قد انتهى، فقال له النبي (ص): (لنا بقية يومنا يا يهودي)، ومن ذلك أن الإمام يحيى قد حدد يوم الخميس كي يأخذ بيت ملقاط أوراقهم من العلامة القاضي زيد علي الديلمي، وكان الإمام يحيى يشد من أزر الديلمي الذي كان يميل إلى مذهب السنة، وأخذ عن علماء ذمار وعلماء مدينة جبلة... وحين أرسل الإمام يحيى ببيت ملقاط إلى القاضي الديلمي بحسب الموعد، وذهب العسكري بورقة الإمام إليه، وهو خارج من الحمام، كتب الديلمي على ظهرها: لنا بقية يومنا يا مولانا. فلما وصلت إلى الإمام فهم ما فيها من تلميح، وغضب، وأخذ يقول: (حمار.. حمار.. من أهل ذمار).
لقد تم توظيف شغف الإمام أحمد بالمواقف والعبارات والمشاهد الضاحكة، واعتبروها دليلاً على غرابة أطواره، ونسبوا له من الجرائم ما ليس له بها علاقة، ومن ذلك أنه قتل مضحكه (علوس) في (بئر)، و(علوس) هو مضحك الإمام، وقد اعتاد عند خروج الإمام للنزهة، أن يمثل دور الغريق، ويختفي داخل البئر لوقت طويل، ثم يخرج، فيضحك الجمع، وذات يوم كررها عدة مرات، لكنه في الأخيرة لم يخرج من البئر إلا ميتاً، فقالوا بأن الإمام أحمد تركه يغرق انتقاماً من سخريته منه!

أترك تعليقاً

التعليقات