حراج الأوطان!
 

ابراهيم الوشلي

إبراهيم الوشلي / لا ميديا -

لا أعلم لماذا يستهينون بخبرتي السياحية! أحاول في بعض الأحيان أن أتباهى بالمعلومات الدقيقة والخبرة الطويلة التي حظيت بها أثناء سياحتي الرائعة في ضواحي صنعاء وأزقتها. تراني أباغت جمعاً من المتحدثين باقتحام عسكري يجبرهم على السكوت، ثم أشمخ برأسي وأحرك يدي بطريقة أستاذ جامعي في السبعينيات من عمره، وأستهل الحديث بنبرة استعراضية عن أجمل حارة زرتها في حياتي. في تلك اللحظات أكون واثقاً بنفسي كل الثقة، فأستمر بالحديث مستمتعاً باطمئناني العجيب وثقتي المطلقة، حتى تخرسني نظرات أصحاب جزر المالديف ومدينة البندقية.
أولئك المدللون يتفرسون في وجهي بعيون برجوازية قاسية تصيبني بالاكتئاب الحاد، فأتركهم تلقائياً وأدير ظهري قاصداً سوق الصافية، مكاني السياحي المفضل.
بعيداً عن إيطاليا وجمهورية المالديف وفنادق الأثرياء، أنا أدرك جيداً جمال صنعاء القديمة وحاراتها وأسواقها العريقة، وأعرف طيبة قلوب أبنائها، وأعي تلك المعاملة النبيلة والحسنة التي يتحلى بها تجارها.
إلا أنني أعشق حراج الصافية وأؤثره على كل ذلك البهاء، ففيه أجد العجائب والغرائب، وأتفكر إلى ما لا نهاية.
هذا الحراج يعتبر عالماً متكاملاً من الموارد المختلفة، وقد تجد فيه ما لا يتوقعه عقلك. إذا ذهبت إلى هناك في المستقبل للسياحة جرب أن تتوقف قليلاً أمام إحدى البسطات، سترى سكاكين مستعملة، هواتف نقالة منتهية الصلاحية، أسلاكاً كهربائية غريبة ومتشابكة، بطاريات ميتة منذ زمن، مسجلات مغطاة بالتراب، تُحَفاً عريقة متهالكة، أنواعاً عديدة من الربل والمطاط، براغي ومسامير ومفكات، وأشياء أخرى لا تسمح المساحة بذكرها، كلها معروضة للبيع وبأسعار متواضعة جداً...
أما صاحب هذه البسطة العجيبة، فله في قلبي كل الاحترام والتقدير، والإجلال والتبجيل. أرجو منك أن تتفرغ في أحد الأيام وتذهب إلى هناك. أريدك أن تنظر إلى أي واحد من أولئك الباعة الذين يجلسون بجانب بضاعتهم. ستظهر لك على ملامحه كرامة وعزة لا توصف.
هذه الكرامة الموجودة في قلب البائع المتواضع لن تجد منها قطرة واحدة في كينونة أكبر سياسي من هواة الانبطاح والانحطاط، أولئك الذين اعتادوا هز الخصور في ملاهي ساسة أمريكا و»إسرائيل».
إن كان هذا الكريم ابن الكريم يبيع الخردة ليجني لقمة عيشه، فذاك اللئيم ابن اللئيم يبيع وطنه ليجني مسحة أمريكية على رأسه.
آخر صفقات الراقصين هي محافظة سقطرى، التي قام الدنبوع سابقاً بتأجيرها دون عقد إيجار لدويلة الإمارات لمدة 99 عاماً، فقام الإماراتي المحروم من التاريخ والأصالة باقتلاع أشجارها ونقلها إلى أبوظبي، ولا يدري الأحمق أن شجرة «دم الأخوين» لو وجدت نفسها أمام برج خليفة لتحولت مباشرة إلى شجرة «بصاق الأخوين»، وبصقة بصقة ستتحول دويلتهم إلى كتلة مخاطية مقززة.
أنا شخصياً لطالما أيقنت أن ضجيج الإيجار وتزوير التاريخ الإماراتي ليس إلا مقدمة تسليكية لاستضافة الجيش الأمريكي في الأرخبيل، فمساعي البيت الأبيض للسيطرة على سقطرى قديمة جداً، أقدم من مساعي الكرملين.
في 2010 مثلاً، التقى الصريع علي عفاش بالجنرال ديفيد بترايوس، قائد القيادة المركزية الأمريكية، لإجراء مناقشات رفيعة المستوى حول بناء قاعدة أمريكية في سقطرى بحجة مكافحة الإرهاب. ورغم أن وسائل الإعلام في ذلك الوقت قدمت الاجتماع بحجة مغايرة تماماً، إلا أن الأمر كان واضحاً ومفضوحاً تماماً.
هناك تقارير تقول بالحرف الواحد إن رئيس العملاء علي عفاش تنازل آنذاك عن جزيرة سقطرى للأمريكان الذين سيقيمون فيها قاعدة عسكرية، وجرت الموافقة من المسؤولين الأمريكان والحكومة اليمنية على إنشاء القاعدة في سقطرى لمواجهة القراصنة وتنظيم القاعدة.
بيد أن تقلبات الخريف العربي أجبرت القرصان الأمريكي على تأجيل الموضوع. ثم أتت مسرحية المبادرة الخليجية، وعندما قام عفاش بتسليم السلطة للدنبوع كانت وصيته بالعامية: «سقطرى يا صلعة حق الأمريكيين، تمام، قد بعناها لهم، انتبه تسود وجوهنا قدام الناس.
وفعلاً كان الأصلع وفياً وطائعاً لأبيه الروحي ومعلمه الأول «عفاش»، وها هو يقدم الأرخبيل اليمني بأبنائه للولايات المتحدة دون أن يقبض سنتاً واحداً، فالثمن مدفوع مسبقاً للخزينة العفاشية.
أعتقد أن الدب الروسي خسر المعركة، وغداً سيصبح مفترق طرق الممرات البحرية الاستراتيجية التي يطل عليها الأرخبيل بيد العم سام. ولكن ما لا يعلمه الجميع هو أن هناك منافساً آخر اسمه اليمن الحر، سيعلن قريباً تفوقه على الفريق الأمريكي بهدف بالستي لاذع الطعم.
عندما يحدث هذا سأذهب للاحتفال مع باعة الخردة الشرفاء في حراج الصافية، وسنطلق الكثير من اللعنات على باعة الأوطان الأنذال. أما أولئك المدللون فسيعرفون أن فرزة الباصات المتواضعة أجمل من مطار «ماركو بولو» البرجوازي. إنها سياحة الكرام الشرفاء.

أترك تعليقاً

التعليقات