سر مفضوح
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
هذه الأم/ الأخت/ الابنة الفاضلة عرفت أنني أكتب هذه الزاوية في جريدة «لا» الغراء، فسلمت زوجتي رسالة إليّ، رأيت في بساطة بلاغتها وسلامة لغتها ما يجعلها صالحة للنشر دون حذف أو زيادة. وهذا نصها:
أخي فضولي تعزي، المحترم، بعد التحية:
لا أعرف كيف أقدم موضوعي، وبأي أسلوب. أولاً أنا امرأة قروية من الريف البعيد، تزوجت من 25 سنة، ولي ولدان وبنت، محفوظاتي من العادات والتقاليد كثيرة، ولكن وجدت أنني غير قادرة على التفاهم مع أولادي، فابنتي 16 سنة خريجة إعدادي، ولكن من الصعب التفاهم معها، وبالرغم من أنها خلقت في القرية، ولكنها لا تحسن الخطاب المؤدب، فإذا لاحظت ملاحظة تتعلق بأسلوب لباسها -على سبيل المثال- فإنها ترفع صوتها فوقي، وإذا لاحظت صوتها يرتفع في البقالة أو حديثها في الهاتف وهي تسير في الشارع، وأشرت إليها أن تخفض صوتها، أشارت إليّ إشارة تخلو من الأدب، ونرجع إلى البيت لنصب عتاباً لا يليق بأم هي والدتها، وعندما تحدث صويحباتها تستخدم لغة غير مهذبة لا تخلو من إشارات جنسية، مع أني حريصة على ألا تكون حاضرة مجالس المتزوجات. وذات مرة كسرتُ هاتفها لأن فيه ما يتجاوز الحياء.
بحق يا أخي العزيز، أصحبت أعاني جداً من سلوك ابنتي. لقد تقدم لخطبتها ابن خالتها، ولكنه أنهى الخطبة بعد شهرين، بسبب أنه سمعها تكلم شخصاً تشكو له سيرة خطيبها، لأنه متزمت ولا يسمح لها بأن تظهر بشعرها أمام أبناء عمها وأبناء خالتها، وهي تسأله: ما الحل؟! إلى درجة أنها فتحت السماعة ليسمع خطيبها الحديث، الذي انتهى بنصح الرجل لها أن تتخلص من خطيبها وأن ألف شخص يتمناها! سمع خطيبها كلام الرجل، أما هي فقد كانت كلمة (OK) هي آخر ما نطقت به... وللحديث بقية.
لم يعد الفتى ولم تعد الفتاة يسمع أو تسمع النصيحة؛ شيء طبيعي، فالعصر اختلف تماماً، ومع اختلاف العصر اختلف الذوق، ومع اختلاف الذوق اختلفت اللغة. زمن الأمور التي ينبغي أن نفطن لها جميعاً ما يطلق عليه جدلية الأجيال!
إن كل جيل ينفي الآخر ويكاد يلغيه. وتفسير ذلك أن الوالد وقد بلغ الأربعين يريد أن يبلغ بابنه الأربعين كذلك، وأن الأم وقد ناهزت الثلاثين تطمع أن تتعامل فتاتها بعقلية الثلاثين، وكلاهما (الأب والأم) لم يقدرا الفارق العمري لولديهما، وما في هذا الفارق من تراكم معرفي وخبرة وممارسة وتعامل، وهذا موضوع يتعلق بالتربية وثقافة الوالدين.
لقد كنا نهاب والدينا بطواعية ورضا ورجاء، بل كنا لا نستطيع إلّا أن نغض الصوت ونخفض النظر حين يكلمنا والدانا، كلاهما أو أحدهما، وكان الوالد أو الوالدة يعيش في ندم عندما يبالغان في تعنيف الفتاة أو الفتى. أما الوالدان -الآن- فإنهما يعيشان في كثير حسرة عندما يخاطبهما الأبناء بلغة سيئة الأدب خالية من اللياقة والاحترام!
ما العمل؟!
لا بد من صياغة المنهج التعليمي صياغة تستمد أفكارها من الدين الحنيف، الذي يأمر بطاعة الوالدين: {ولا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما}. والأمر الآخر مهم جداً، ويتعلق بالقدوة، فلا بد أن يكون الوالدان مثالاً في الخطاب التعاملي (التداولي) داخل الأسرة والإعلام بتوصيلاته المعروفة: تلفزيون، صحافة، إذاعة... أن يقوم بدوره في زرع فضيلة اللغة داخل المجتمع، والعمل على «تنميط» أسلوب جديد في التعامل الجديد وفق منهج جاد وعلمي مناسب.
إنها ديمقراطية الجيل الحاضر، ديمقراطية فيها غبش كثير أو هي بدون ضوء، أخذناها من التلفاز و«الواتس» والمدرسة والجامعة والسوق، فالفتى والفتاة يفهمان الديمقراطية أن يفعلا ما يشاءان بكامل حريتهما وما يفرضه السلوك الحر بكل جرأة.
كل من الفتى والفتاة يصرخ الواحد من الابن والابنة في وجه أمه وأبيه، كليهما أو أحدهما بكل فجاجة وصفاقة دون أدنى شعور بالاحترام والتقدير.
وكان أيام زمان لا نستطيع -احتراماً وإجلالاً- أن ننظر في وجه الأب أو الأم، أما الآن فالموقف مختلف تماماً، وسمعت فتى على درجة من قلة الأدب يسأل والده: ماذا عملت لي؟ فلا مال ولا حياة بسيطة، أموت جوعاً أنا وإخوتي، وبكى الأب لحظه العاثر وحاضره البارد، فلا حاضر يرحل عنه ولا مستقبل ينتظره ولا ماض أسعده!
كان هذا الأب كما الأم يكافحان الفقر بكل وسيلة، بما في ذلك جمع القمامة واستخراج علب المياه الفارغة على أمل أن يتخرج هذا الولد قليل العقل كثير الشقاء فيكفيهما سيرة البؤس والشتات، ولكنه لم يفعل ويا ليته لم يتعلم وليتهما لم يحلما!
جيل شبه ضائع، فلا صلاة ولا عبادة ولا طاعة للوالدين، وإنما «واتس، وقات، وبعضهم مخدرات»!
مشكل هذا الجيل أنه اتكالي على الآخرين، يتعامل مع أبيه كما لو كان شغّالاً من الضروري أن يوفر له مالاً لشراء ملابس وقات وعطر وعزائم لأصدقائه.
نحن نعذر هذا الجيل، فمنبر الجامع اشتغل بالسياسة والأب مشغول بالقات والأم بالتفرطة والشارع بالبذاءة وسوء الأدب، والتلفزيون بالشخلعة...
ضياع في ضياع في ضياع!
فليس لجيلنا حرس وراعِ
هذه الرسالة إعلان الضعف أمام خطر يهدد المجتمع الذي يعاني من حروب كثر، وما شاء الله!

أترك تعليقاً

التعليقات