منعاً لتفشي داء الثورات السابقة
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
نحتفي اليوم كأحرار بذكرى ثورة الشعب المجيدة، ثورة الحادي والعشرين من أيلول، التي تطل علينا بعيدها الحادي عشر، فكيف يجب أن نستقبل إشراقة شمس هذا الصباح، لاسيما وهو يذكّرنا باليوم الذي تحرر فيه اليمن من منظومة العمالة والوصاية، وأسقط فيه الشعب بقيادة سيد الثورة يحفظه الله سلطة الظلم والاستبداد، التي جعلت من اليمن حديقة خلفية للنظام السعودي، وصادرت حرية الشعب، وتسببت بمفاقمة آلامه ومعاناته، وعاشت في بحبوحة الثراء الفاحش في الوقت الذي كان هذا الشعب يزداد فقراً، وسعت لتقسيم اليمن إلى كنتونات متناحرة، وجعلت مصير الوطن بكله بيد أمريكا وأدواتها الإقليمية والمحلية، وفتحت الباب على مصراعيه أمام داعش والقاعدة، وعملت على تفكيك وتدمير كل عوامل القوة التي لا بد منها لبناء دولة، وغذت كل البؤر التي بإمكانها أن تؤبد حالة الصراع الداخلي، وتحت كل التسميات والعصبيات؟
والسؤال الذي يطرح نفسه، مستدعياً بدوره أكثر من سؤال، هو: هل يكفي التذكير بكل ما تحقق، والوقوف على أهم منجزات الثورة، كالحرية والاستقلال، أم ينبغي التفكير والبحث في ما يجب على الثورة أن تحققه؟ وهل نحن مدركون لعظمة هذه الثورة، منطبعون بطابعها، معبرون عنها، أم أن هناك تراخياً من قبلنا، إلى الحد الذي بتنا فيه أقرب إلى تقليد سوانا، مِمَّن كان الوطن عندهم مجرد شعار، والثورة ليست سوى يوم واحد، يكثر فيه الهجاء للعهد البائد، وتصدح به الحناجر بالقصائد والألحان وانتهى الأمر؟ بمعنى أوضح: هل لا نزال كأحرار نحمل ثورة الحادي والعشرين من أيلول كماهيةٍ انطبعت بها أرواحنا، فانعكس هذا التماهي على سلوكياتنا وقراراتنا وأفكارنا وأعمالنا ومشاريعنا؟
إذا كان الجواب: نعم؛ فلماذا يشعر المتابع بوجود تراخٍ كبيرٍ من قبل السلطة في العمل على مد الثورة بما تحتاجه من مقومات تعزز بقاءها، وتدعم نموها واستمراريتها، وتؤصل لمفاهيمها وأفكارها في النفوس وفي الواقع؟
إن هذه الثورة يا سادة، مُهِرَتْ بدم ودموع الغالبية العظمى من أبناء هذا الشعب، وهم الفقراء والكادحون المعذبون المقصون من قبل كل السلطات الحاكمة سابقاً، ملكيتها وجمهوريتها، باستثناء حقبة حركة 13 حزيران التصحيحية التي استمرت ثلاثة أعوام، والتي لم يكن لها من ذنب لدى العدو الخارجي وعملائه من الداخل الذين تحركوا لقتلها في مهدها سوى أنها تحركت بالشعب وللشعب، وعملت على يمننة برامجها ومشاريعها، وكفرت بالمشيخية السلاطينية، واتجهت نحو المواطن الكادح، بعد أن قطعت يد المستغلين وأصحاب النفوذ، وعملت كل ما بوسعها لإعادة الاعتبار لليمن الأرض والإنسان... فما أحوجنا اليوم إلى الاستفادة من تجربتها، كي نعصم أنفسنا من التأثر بسابقاتها ولاحقاتها من النظم الحاكمة. ولسنا فقراء في سوح التجربة العملية حتى في حقبة عشرية الثورة والجهاد، الممتدة من 21 أيلول 2014، حتى 21 أيلول 2025، الذي سيضعنا بدوره أمام عقد جديد من عمر الثورة. ولكن العيب فينا؛ إذ يعتبر كل مسؤول كل ما سبقه لا معنى له، ويرى نفسه أنه هو المبدأ والمنتهى لكل شيء، حتى ولو كان مَن سبقه رجلاً بحجم الوطن، كالشهيد الرئيس الصماد، الذي على حد تعبير أقرب مقربي مَن جاءوا بعده، وأهم رؤوس الإدارة والإعلام، وهو يشنع على الكُتّاب والإعلاميين كثرة انجذابهم إلى النموذج الذي يعبر عن كمال المسيرة، ويؤكد عظمة مدرسة الإسلام الأصيل، وقدم بحركته الحُجّة لكيفية المسؤولية، وما ينبغي على مَن يحملها من السعي لامتلاك سمات وخصائص ليصير بموجبها جديراً بشرف حملها، قال ذلك الشخص وهو يتفجر غضباً: «ولماذا لا تتحدثون عن الذين هم المسيرة، والذين لولاهم لما كان الصماد، الذي لم يكن سوى مقوت من بني معاذ»! طبعاً قال ذلك بعد أن مر أكثر من سبعة أيام بلياليها وهو ومَن معه من علية القوم يرسخون في وعي الحاضرين أنه لولا فلان لما كانت مسيرة ولا ثورة، ولا بقي هنالك قيادة، ففلان وحده هو صانع كل هذه التحولات، منذ استشهاد الشهيد القائد (ر).
هكذا بكل صلف وعنجهية ومقت ينظر هذا، الذي هو انعكاس لنظرة مجموعة أو جماعة داخل بنيتنا الثورية، إلى أعظم شخصية مثلت الثورة، وأكمل مَن تجلى على يديه الكمال لمشروعنا القرآني الثوري التحرري، فما بالكم ببقية الأمور؟!
إن ثورتنا الشعبية المجيدة، في عيدها الحادي عشر، تدعونا إلى فتح جردة حساب مع أنفسنا، لنكتشف أين نجحنا، وأين أخفقنا، ولماذا نجحنا هنا في الوقت الذي أخفقنا وفشلنا هناك!
كل ثورة تحترم نفسها ستتحدث علناً عما هو لها وما هو عليها. ولا نريد لكتابات الثوريين أن تسلك مسلك مَن سبقهم الذين يرون أن لا وجود لليمن سوى بوجود 26 سبتمبر 62م، وأن الشعب كان عدماً قبلها، وللأسف قد انتشرت هذه العدوى عندنا.
لسنا كثوار معنيين بما كان، بل بما يجب أن يكون. وإن أعظم دليل يمكن من خلاله إثبات فساد وعمالة مَن أسقطتهم الثورة هو: صلاح واقعنا العملي كله، سياسة وحكماً واجتماعاً واقتصاداً وعلماً وأمناً وصحة وخدمة عامة...
وأخيراً، لا نريد لثورتنا أن تقع في ما وقع فيه سلفها، ولعل تكرار إخفاقات الثورات في اليمن كان -بحسب ما يقوله أحد الأحرار- يرجع إلى عامل واحد، هو: أنها في جوهرها لا تنطلق من مشروع وطني مؤسسي، بل تقوم على منطق الأشخاص والولاءات الضيقة، فالثائر غالباً لا يسعى إلى بناء نظام مختلف، وإنما إلى استبدال موقع الحاكم القديم ليعيد إنتاج الممارسات الفاسدة ذاتها، وكأن لسان حاله يقول: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ»[البقرة:٢٤٧]، أي نحن أحق بالفساد والامتيازات لا أقل من غيرنا، وهكذا تنتهي كل دورة تغيير بوجوه جديدة تحمل الأدوات القديمة نفسها، فتتجدد أشكال الفساد والتخلف دون أن تتغير البنية العميقة للنظام، ومع استمرار هذا النمط، يصبح المشهد السياسي ساحة للتناوب في اللعن والاتهام، كما وصف القرآن: «كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة لَّعَنَتْ أُختَهَا»[الأعراف:٣٨]، وبذلك يتساوى الجميع في الفشل، لأن غياب الرؤية المؤسسية يجعل الثورة مجرد إعادة تدوير للأزمة نفسها، لا قطيعة معها؛ فهل نعتبر؟!

أترك تعليقاً

التعليقات