مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
لقد عاش جيلنا التعامل بقدسية مع بعض القضايا والأحداث والشخصيات التي صارت مع الزمن جزءا لا يتجزأ من العقيدة لدى الذهنية العامة، وأمراً من الأمور التي لا يشك أحدٌ بعظمتها وطهارتها وأصالتها وصدق كل ما يقال عنها، وإذن فليس من حق أي يمني أن يحتمل مجرد احتمال بخلاف ذلك المترسخ في الوعي الجمعي كمسلمات قطعية، وبالتالي فإن التعرض لها بالنقد، أو لبعضها جريمة وكفر بواح بالجمهورية اليمنية، ودليل قاطع على أن مَن تتوفر لديه مثل هكذا نزعة نقدية إماميٌ كهنوتي رجعي ظلامي لا يؤمن جانبه، من هنا اتجه كثير من الباحثين والكتاب والإعلاميين إلى المصالحة مع الواقع السائد في عوالم الفكر والثقافة، إلى المستوى الذي درج عليه الكبار قبل الصغار، وجرت عليه الحالة التعليمية في المدارس والجامعات جيلاً بعد جيل، خوفاً من ردة الفعل من قبل الجماهير، فيما لو تمت مكاشفتها بحقيقة تلك الوقائع التي تحتفي بذكراها، وتنحني احتراماً وإكباراً ومحبةً كلما سمعت باسم رمز من رموز تلك الوقائع والأحداث، وتطير فرحاً كلما أُثير الحديث عن تلك الشخصيات التي أضحت مثلاً أعلى، ومورداً من موارد البطولة والشجاعة والعنفوان، مع أن الحقائق التاريخية تنفي كل هذا الوهم، ولكن ليس على مَن وعى تلك الحقائق، واكتشف السر الكامن وراء كل تلك الخرافات والشعوذات والتمائم إلا أن يدوس على الحقيقة، ويقوم بلي عنق التاريخ، إرضاءً لكل ما اعتادت عليه وألفته فصار جزءًا من كيانها الشخصي، وبعداً لا غنى عنه في بنيتها، أعني: العقلية الطفولية التي تجب مسايرتها كيفما اتفق، وأياً تكن النتائج والآثار السلبية التي ستنعكس على الحاضر، وتخلق عقلاً وفكرا مشوهاً في حركة المستقبل.
ولذلك وجدنا أن طبقة الاستبداد المترفة الإقطاعية العميلة من خونج الأحمر وخبز وعجين اللجنة الخاصة عمدت إلى تغليف مساعيها في البقاء والسيطرة على الحكم وكافة مقدرات وثروات هذا الشعب بأغلفة وشعارات وطنية مزيفة، استغلت جهل المجتمع بتاريخه النضالي، فقدمت نفسها أنها الامتداد الطبيعي لسبتمبر 62، وأكتوبر 63، وكل الثورات، مع التركيز على إخفاء كل ما صاحب ثورة 26 سبتمبر من أخطاء وانحرافات، وصولاً إلى مرحلة السقوط التام بيد الرجعية المحلية والإقليمية، وتسليمها مصير الشعب للقوى الاستعمارية الغربية، وبالتالي ساد الظلم، وعم الفقر، وتم إفراغ السياسة والعسكرية والجوانب الاجتماعية من كل ما يوحي بوجود أشياء تعبر عن عقيدة أو قيم أو أخلاق، ليصير الوطن بجمهوريته وثورته وجيشه وتاريخه وكل ما فيه حقاً للعملاء والخونج، لذلك فهم الجمهوريون وإن باتوا في أحضان الملكية السعودية، والمحررون للأرض وإن أصبحوا القوادين لدى المحتل والأدوات الخادمة لكل قوى الاستعمار.
والعجيب أن هذا كله لا يدفع أتباعهم للتساؤل: كيف لمَن أسلم وجهه للأمريكي والسعودي والبريطاني والصهيوني أن يقول: بأنه يدافع عن اليمن الجمهوري؟
والخلاصة: لن يستطيع جيل اليوم إدراك الفوارق الكثيرة بين الخائن والوطني، وبين الأصيل والدخيل، وبين المصلح والمفسد، ما لم يستطع معرفة حقيقة 26 سبتمبر 1962م، بسلبياتها وإيجابياتها، وبكل ما صاحبها من قضايا وأحداث، وكل ما اعتراها من نكسات وتراجعات، لأن ذلك وحده هو الذي سيؤكد: أن ثورة الحادي والعشرين من أيلول، هي الغاية التي انطلقت من وحي 26 سبتمبر، كمكمل لها، واعتمدتها كوسيلة لبلوغ أسمى الغايات، ولم تكن على النقيض منها، فهي ثورة شعبية قامت على أسس سليمة من حيث الدوافع والأهداف، وكانت تلبية لرغبة وتطلعات القاعدة الشعبية الأوسع، مع التمسك المبدئي والقيمي والديني بكل قضايا الأمة ومقدساتها، وفي مقدمتها قضية فلسطين، والتي كما يقول أحد المحللين السياسيين: «لا تكون الثورة في عالمنا العربي الإسلامي ثورةً حقيقية وصادقة إلا بمدى تمسكها بقضية فلسطين والقدس، واعتبارها ضمن أولوياتها في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والدينية، ما لم فليست ثورة»، كما أنها لم تخضع للقوى الاستكبارية، بحيث تصبح فارغة من مضامينها ومحتوياتها، مسلمةً أمرها لقوى الرجعية في الإقليم لكي تستعيد سيطرتها على البلد بقوى خاضعة ومستعبدة تسير بسيرة سلفها، وتتنصل من كل شعاراتها، وتتنكر لكل ثوابتها.
نعم لا يخلو التحرك الثوري من السلبيات، ولكن تلك السلبيات ليست حجة على الثورة، التي لاتزال قادرة على انتزاع كل استحقاقاتها، محافظةً على جميع منجزاتها وأهدافها، مستعدة لمواجهة كل التحديات التي تقف في طريقها أياً كانت.
إن ثورةً تبنت السلم الاجتماعي، وسعت في إيجاد الشراكة بين جميع مكونات المجتمع من أجل البناء هي ثورةٌ لا تموت، ولا تهرم أو تشيخ فترد إلى أرذل العمر، وإن ثورةً اشترك فيها الكبار والصغار، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، المدنيون والعسكريون هي الثورة الأصيلة والباقية ما بقي صناعها، لأنها عبرت عن الكل اليمني، وحملت روحيتهم، وجاءت من رحم معاناتهم، وجسدت هويتهم، ومثلت أفكارهم، ولم تكن خاضعة لتقليد أي ثورة أخرى في مفاهيمها ومصطلحاتها وشعاراتها، كما فعلت الكثير من الثورات حتى على المستوى اليمني، إذ قامت باستنساخ أهداف لثورات حدثت في أقطار أخرى وجعلتها أهدافاً لها، دون أدنى مراعاة لاختلاف الثقافات والظروف والبيئات من قطر لآخر، فلذلك ماتت، ولم يبق من تلك الثورات سوى شبح الذكرى لأيام لم تعد موجودة إلا في خانات التضليل والخداع للبسطاء، والمزايدات على أحرار هذا البلد لا أكثر.

أترك تعليقاً

التعليقات