خشيةَ أن يصبح الضدان شيئاً واحداً
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
خارجاً للتوِ من رحلة تأملٍ شاقة، حاولت فيها جمع ما تفرق من قصاصات احتوت بين طياتها بعض حكايات الأحرار، الموصلين البدء بالخاتمة، والمجسدين الإيمان بالعمل؛ إن تحركوا فلإحقاق الحق، الذي يسيرون تحت رايته، ويبذلون مهجهم لأجل تعميمه، وتعزيز قواعد وجوده، وإبراز شكله ومحتواه في الميادين كلها.
قولهم فصل، وفعلهم عدل ومساواة. صادقون مع الرحمن؛ لا من خلال كثرة المداومة على كثير النوافل والقربات والنذور والطاعات التي تقدمهم كنساك ورهبان انقطعوا للذكر والشكر والصلوات والصوم والاعتكاف في دور العبادة؛ بل من خلال ارتباطهم، بل ذوبانهم في الناس. فهم حمالو همومهم، الناذرون أنفسهم لخدمتهم؛ يوقرون الكبار، ويعطفون على الصغار؛ يجالسون الفقراء، وينزلون بساحة المساكين والضعفاء؛ يتعاملون مع كل شيء بحكمة. فما استفزهم خطاب جاهل، ولا ضاقت نفوسهم ذرعاً بمنطق مخالف؛ لم يكن معيارهم في البحث عن النفوس القابلة لأنْ تصير لبنة من لبنات صف الحق المطلوب إبرازه كما يحب الله لجنده، المقاتلين في سبيله أنْ يكونوا (كالبنيان المرصوص) ضماً وإسبالاً، أو وجود (حيعلات ثلاث أو اثنتين في الأذان) وإنما سلامة الفطرة، وسمو الخلق، والصدق مع الله والناس، ومواجهة الظلم والفساد والاستكبار.
كان أكثر ما ينفرون منه هو؛ العمل على مخالطة كبراء المجتمع وعلية القوم، وخطب ودهم على حساب الفقراء والمستضعفين الذين لا يحسبون في العير ولا في النفير في قراهم ومدنهم، ولدى قبلهم وأسرهم، لذلك لم يكن ثمة فرق بين ابن الشيخ، وابن عامل النظافة عندهم، فهما سواء ما دام وقد اجتمعا في إطار مسيرة، وكانا ضمن حركة خلعت كل الأسماء والألقاب، وكفرت بكل أشكال التمايز الطبقي والعرقي والمناطقي والفئوي، وبات الكل (أنصار الله) فقط وفقط.
إن قصدهم ملهوف أغاثوه، وإن استنجد بهم ضعيف هبوا لنجدته، وهيهات هيهات أنْ يتجاهلوا صرخة مظلوم، أو دمعة محروم، أو سؤال ذي حاجة! ولم يعرف عنهم يوماً أنْ أقروا ظالماً على ظلمه، أو حصر الوجود بالمنتمين لهم، واعتبار بقية المجتمع مجتمع جاهلي ضال.
كانوا بعيدين كل البعد عن قسوة القلوب، وغلظة الطباع، وسرعة الغضب، ونزعة البطش والكبر والانتهاك للكرامة البشرية؛ رجال حلم ومعرفة وتواضع وعفو ومحبة وسماحة ورحمة وإحسان، البسمة مفتاح كل قلب لديهم، والكلمة الطيبة رأسمالهم في كل ساحات العمل مع المجتمع، وميادين الاحتكاك بالناس.
لذلك كانوا القوة قبل القوة، والفتح الأكبر قبل حصوله.
هؤلاء هم الروح لكل ما تم تحقيقه في زمن المسيرة والثورة، من انطلاق الصرخة حتى انطلاق الصاروخ، وعليهم بعد الله الرهان الأكبر..
هم الروح لأنهم؛ أنزلوا الفكرة من عالمها التجريدي إلى عالم الحس والتجربة، فرآى الناس المسيرة بفضلهم حركةً فاعلةً في الواقع، ولمسوا عظمة المثال من خلال طبيعة آثاره الإيجابية التي انعكست في كل ميدان حظي بوجود بعض هؤلاء على رأس المعنيين في تحمل مسؤولية العمل فيه.
وهم القيمة التي تقف وراء كل التحولات الكبرى، والإنجازات التي اتخذت مساراً تصاعدياً في الكم والكيف، وما كان لنا أنْ نرى وطننا في مقدمة الدول المصنعة لصواريخ (فرط صوتية) لولا وجود هذه الثلة الكاملة في كل شيء، التي قاتلت بالروح قبل السلاح، وحملت الإيمان والإرادة والحكمة والتبصر الخلقي، كعوامل مؤسسة لبناء الشخصية الجهادية الراشدة المتوازنة، المنزهة عن العقد النفسية، والميل الغرائزي، والتضخم الذاتي، والخضوع للهوى والمطامع والرغبات الشخصية.
لقد انتصر هؤلاء على أنفسهم أولاً، فكان كل انتصار حققه الله لهم على أرض الواقع ثمرةً طبيعية تظهر طيب منبتهم، وسلامة قصدهم، وعظيم صبرهم، ومدى تعلقهم بالله؛ التعلق الذي يتجاوز مسألة العشق، بل حتى مسألة الحب، إلى ما هو أعلى وأقوى وأوثق وأكمل وأصدق؛ وهي: درجة النسيان للأنا، بل درجة تلاشي وانعدام الذات، وبانعدام الذات هذه؛ تتجلى ذاتاً أخرى؛ ليس فيها حظ للشيطان، ولا شيء من مظاهر المادة الجوهرية التي قام عليها الخلق للإنسان، وهي الطين، الذي متى ما تمكنت معالمه من امتلاك زمام النفس؛ قادتها نحو التسافل والانحطاط، وجعلتها مثال للتوحش والظلم والفجور ونشر الفساد في البر والبحر؛ ذاتاً كل ما فيها من روح وجسد، من مكونات معنوية، ومظاهر مادية، وكل نشاطها وحركتها وسكونها ويقظتها ومنامها، وفكرها وسلوكها وأقوالها وأفعالها؛ شاهدٌ على وجود إنساني فوق مستوى بشري، وجود (ما فوق ملائكي) وجود (الإنسان الكامل) (وجود الربانيين) (الربيين) الذي كله عبارة عن مرآة نشاهد من خلالها انعكاسا لتلك النفخة، التي بعثت في الطين روحاً؛ النفخة من روح الله الرحمن سبحانه.
لذلك نراهن عليهم، بعد الله طبعاً. نراهن عليهم أحياء في ساحة المقاومة والجهاد، كما نراهن عليهم وقد ارتقوا شهداء في سبيل الله، فكانت شهادتهم حياةً أكمل لهم، وللمنتظرين لإحدى الحسنيين بعدهم، والثابتين على ما ثبتوا عليه. وهنا يتكامل الجانبان، ويلتقي النهران؛ الدم والعرق، الكلمة والفعل، الدافع والموقف، المثال والتجربة، فيتجلى أمر الله، بقيام أنصاره، الذين مهما تلبس باسمهم المتلبسون؛ فلن يقدروا على بلوغ مستوى نعل أحدهم!! لأنهم تركوا في كل ميدان نموذجا يفضح المدعين، ويرشد المخلصين والمنتمين فعلاً.
هذا البسط مجرد مدخل لامتلاك الأوليات التي بموجبها نستطيع معرفة المخلصين في انتمائهم، وكشف المدعين والحذر منهم. فلقد قامت قيامة المدعين هؤلاء قبل القيامة، إذ ضرب الله بالآثار التي تركها كل صمادي الهوى، (ملصي) الفطرة والموقف، والحركة والفاعلية سوراً فصل المؤمن من المنافق، ومهما حاولت ألسنتهم الدفع بما يشي بأنهم أبناء لمدرسة واحدة، وعلى قلب رجل واحد؛ فإن الواقع يفضحهم، فيظهر تربصهم، ويتضح ارتيابهم، وتبرز معالم انحرافهم، وآثار اغترارهم بالأماني، وإخلادهم إلى الأرض، واتباعهم للشيطان.
وأخيراً؛ لزم استيعاب كل هذه الفروق، التي ما كانت إلا نتيجة الخشية على هذه الأمة؛ ولا شيء أخشاه أكثر من هذا الشيء: أن يصير المدعي، والمخلص، الحقيقي والمزيف؛ شيئاً واحداً!

أترك تعليقاً

التعليقات