مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -
بناءً على ما يفضي إليه لاهوت التأسيس، لا شيء يشير إلى تناقض أو مباينة جوهرية في واحدية نشوء كل من إسرائيل وأمريكا. وتبيّن الدراسات التاريخية أن الثوار الإنكليز من البيوريتان (Puritans) الطهرانيين الذين استوطنوا أمريكا الشمالية، وأورثوها أبرز خصائصها وملامحها لم يستوطنوا لأسباب تجارية خالصة، ولم يهاجروا إليها طلباً لحرية العبادة وحسب، وإنما كانت تجسد لهم أيضا فكرة مستمدة من أدبياتهم العبرية ونظرياتهم عن «نهاية الزمان». ففي أقل من خمسين سنة مضت على تأسيس جو سميث (John Smith) للمستعمرة الإنكليزية الدائمة الأولى في جيمستاون (Jamestown) عام 1907 وصل إلى العالم الجديد 80 ألف مستوطن إنكليزي أسسوا فيه 18 جماعة مستقلة مختلفة. وتمتعت كل واحدة منها باستقلالها وسيادتها الكاملة، ومُنِحَت وسام العبرية ولقب «الشعب المختار»؛ ثم إنها قدّست اللغة العبرية، وطالبت بتطبيق شريعة موسى، وسمَّت مجالها الحيوي (Lebenstaum) من الأراضي المغتصبة باسم «أرض كنعان»، أو «إسرائيل الجديدة»، أو «صهيون»، أو «أرض الميعاد»، أو غير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون على فلسطين. كذلك كانت كلها تلتذُّ بإبادة شعوب أمريكا بسادية واحدة، ومبررات أخلاقية وأسطورية واحدة أسقطت على نفسها، وعلى ضحاياها معظم الروايات العبرانية عن أرض كنعان وأهلها.
كذلك سنجد ما يوطِّد صلة المعنى بين أمريكا و»إسرائيل» لدى الشطر الأعظم من مؤرخي وكتّاب الأطروحة الأمريكية. وفي هذا المجال يبيِّن الباحث الأمريكي لي فريدمان في كتابه «حجاج في العالم الجديد» أنَّه من اليوم الأول لوصول المستعمرين الإنكليز إلى العالم الجديد، وهم «يريدون أن ينشئوا في أمريكا دولة ثيوقراطية تعيد سيرة اليهود التاريخيين. فالخطباء والوعّاظ استمدّوا نصوص خطبهم من العهد القديم، أما الآباء فقد استعاروا منه أسماء أولادهم. لم تكن العبرية لغة ثانوية بل كانت عمود ثقافة المثقفين والمتعلِّمين المتدينين وغير المتدينين. وكان تاريخ اليهود في العهد القديم قراءتهم اليومية، بل لربَّما كانوا يعرفونه أكثر ممّا يعرفون تاريخ أي شعب».
وهكذا استمرت المحاولات الحثيثة من قبل الباحثين، للإضاءة على ما يمكن وصفه بالبعد الميتافيزيقي للثقافة المؤسِّسة لأمريكا. وضمن هذا السياق تُلقي دراسة الباحث في الشؤون الأمريكية د. منير العكش الضوء على المعنى «الإسرائيلي» للنشوء الأمريكي.
في هذه الدراسة جلاء لقضية منهجية قوامها، أنَّ أمريكا ليست إلاَّ الفهم البريطاني التطبيقي لفكرة «إسرائيل التاريخية». وأنَّ كل تفصيل من تفاصيل تاريخ الاستعمار البريطاني لشمال أمريكا، حاول أن يجد جذوره في أدبيات تلك «الإسرائيل»، وسعى بالتالي إلى تمثّل وقائعها، وأبطالها، وأبعادها الدينية، والاجتماعية والسياسية، وتبني عقائدها في «الاختيار الإلهي»، وعبادة الذات، وتملُّك أرض الآخرين وحياتهم. لقد ظنوا أنفسهم، بل سمّوا أنفسهم «إسرائيليين» و»عبرانيين» و»يهودا»، وأطلقوا على العالم الجديد اسم «أرض كنعان»، أو «إسرائيل الجديدة»، واستعاروا كل المبرِّرات الأخلاقية لإبادة الهنود الكنعانيين، واجتياح بلادهم من مخيّلات العبرانيين التاريخية. ليست «العلاقة بالمعنى» بين «إسرائيل» وأمريكا مجرَّد تركيب ذهني أخذ المشتغلون بظواهره وألوانه، وبأعراض التشابه في النشأتين. وإنَّما هي علاقة تأسَّست على اعتقادات المهاجرين بأنَّهم بلغوا أرض الميعاد والخلاص، تماماً كالاعتقاد اليهودي بفلسطين. تذهب الدراسة، إلى أنَّ فكرة أمريكا هي «استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة» عبر الاجتياح المسلَّح وبمبررات «غير طبيعية» وهذه محور فكرة «إسرائيل التاريخية». ذلك أنَّ عملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة بشخصيات (أبطالها «الإسرائيليين»، الشعب المختار، العرق المتفوِّق) وضحاياها (الكنعانيين، الملعونين، المتوحشين، البرابرة) ومسرحها (أرض كنعان، «إسرائيل») ومبرراتها (الحق السماوي أو الحضاري) وأهدافها (الاستيلاء على أرض الآخرين واقتلاعهم جسدياً وثقافياً) من فكرة «إسرائيل التاريخية».
لعل الاعتقاد بأنَّ هناك قَدَرَاً خاصاً بأمريكا، وأنَّ الأمريكيين هم «الإسرائيليون» الجدد و»الشعب المختار» الجديد يضرب جذوراً عميقة في الذاكرة الأمريكية، وما يزال صداه يتردَد في اللغة العلمانية الحديثة، أو ما صار يعرف بالدين المدني، إنَه اعتقاد يتجلَّى في معظم المناسبات الوطنية والدينية، وفي كلِ خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون، ومفاده أنَ «إرادة الله، والقدر، وحتمية التاريخ... الخ اختارت الأمَة الأمريكية (الأنكلوسكسونية المتفوِقة) وأعطتها دور المخلِص (الذي يعني حق تقرير الحياة والموت والسعادة والشقاء لكل الشعوب والأمم)».

أترك تعليقاً

التعليقات