تأملات مبكِّرة
 

عبدالمجيد التركي

عبدالمجيد التركي / لا ميديا -
في يوم من أيام طفولتي المبكرة، توقفت امرأتان للراحة والثرثرة بجانب بيتنا في شهارة، واحدة منهما كانت تحمل على رأسها حزمة من قصب الذرة الطري، كانت المرة الأولى التي أرى فيها جرادة وهي تأكل بشراهة من ورق الذرة، اقتربت أكثر لأتأملها وأدقق في الخطوط التي تغطي عينيها، وأحاول أن ألمس الشوك في رجليها الغريبتين. كانت دهشتي بتلك الجرادة تفوق دهشة مظليٍّ مبتدئ يقفز من الطائرة لأول مرة بيدين مفتوحتين كأنه يريد احتضان الأرض التي صغرت في نظره لأنه يراها من الأعلى...
كنت مغرماً بالتأمل، ومسكوناً بالأسئلة. في عصر ذلك اليوم، أيضاً، أرسلتني أمي إلى السوق حيث صيدلية أبي، لأخبره بأمرٍ ما، وأكَّدت عليَّ أن أسأله عن هذا الأمر وهو لوحده، وحين وصلت إلى الصيدلية كان هناك رجلان يتحدثان مع أبي عن استخدام الدواء، فكتبت لأبي بإصبعي في الهواء وعرف ما أريد، وردَّ عليَّ بأن كتب بإصبعه في الهواء، وقفز إلى ذهني سؤال: لماذا لا توجد أقلام نكتب بها في الهواء وتظهر الكتابة كما تظهر على الورق، وتبقى الكلمات تسبح في الهواء؟
في الدكان الملاصق لصيدلية أبي، كان يجلس رجل وبيده خيط وإبرة، ليرتق الشقوق التي خلَّفها البرد في قدميه، فتساءلت: كيف يأتي الشتاء، وكيف يجرح أرجلنا دون أن نحس، وكيف يخبئ السعال بين أضلاعنا، وكيف تسري بماء مساجدنا القشعريرة إن شرب البرد منها؟
توالت الأسئلة، وأصبح التأمل في الوجود والموجود مرهقاً إلى حد الشعور بالغربة، لأن لا أحد كان يجيب على تلك الأسئلة التي يقولها طفل في عامه السادس، وكانوا ينظرون إليه بغرابة لأنه يقول كلاماً أكبر من مستواه.
كنت أرى الأطفال الذين يلعبون طوال اليوم وأستغرب أنَّ لا شيء يشغل تفكيرهم سوى اللعب بالكرة ولعبة الغمَّيضة، فأشعر أنني أكبر منهم سناً رغم أنهم من أترابي ولِداتي. لذلك كنت موقناً بأنني طفلٌ مختلفٌ، وأن هناك شيئاً يجب أن أفعله لكي أكون مميزاً، فقد كنت متفوقاً في إدراكي للأشياء، وكان يراودني شعورٌ دائمٌ بأنني في المكان الخطأ.

أترك تعليقاً

التعليقات