استرجاعات حادة
 

عبدالمجيد التركي

عبدالمجيد التركي / لا ميديا -
في طفولتي كنت أتمرن على الكتابة بيدي اليسرى من باب الاحتياط في حال انقطعت يدي اليمنى.
كنت خائفاً من فقدان الكتابة أكثر من خوفي على فقدان يدي. وحين أنزل في درج البيت أغمض عيني لأتعلم المشي في الظلام كالعميان، وأعد درجات السلم بقدمي. وإذا كنت في شارع ليس فيه أحد، أمشي وأنا أعرج، أو حين أعبر إلى الرصيف، لأجبر السيارات على تخفيف سرعتها وأنا أقطع الشارع كذوي الاحتياجات الخاصة.
كان يعجبني لمعان الألومنيوم الذي يصنعون منه العكازات، وذلك الزر البارز الذي يتحكم في تطويل العكاز أو تقصيره. كان جارنا محمد مصلح يعتني بعكازه كثيراً، فيضع قطعة من المطاط الأسود في طرف عمود الألومنيوم، ويلصق الإسفنج ليشعر بالليونة حين يتكئ بإبطيه على العكاز.
استعرت ذلك العكاز كثيرا بين صلاتي المغرب والعشاء، وأعيده إلى الجامع قبل أن يكمل جارنا التشهد الأخير.
حتى الطاولة الخشبية التي كانت مربوطة بسلسلة في صرح المسجد، وتستخدم لغسل الموتى، تمددت عليها فشعرت بألم في ظهري، ولم أجرؤ أن أسأل أحمد زياد، المكلف بغسل الموتى: لماذا لا يضع بعض الإسفنج على هذه الخشبة القاسية ليريح الموتى ظهورهم عليها وهم يغتسلون للمرة الأخيرة. لكني سألته لماذا يربطها بالسلسلة إلى خزان الماء.. هل هناك من ينوي سرقة هذه الخشبة فعلاً؟
إنها خشبة ميتة، وإلا كيف تصمد حين يغسلون عليها الأموات؟
لا أجرؤ على تعزية صديق ماتت أمه، لأنه يعيش قيامة لا يراها أحد.
الدنيا لا تساوي حذاء أمه الذي داسته النائحات في معقم الباب، ولا رائحة مقرمتها وحناء يديها.
ما الذي ستفعله الطبطبة على ظهر مكسور؟
لا يستطيع استيعاب المفارقة: هي جاءت به إلى الحياة وهو أنزلها إلى القبر، أخبروه أنه لا يجوز لأحد سواه دفنها.. كيف احتملت يداه وحشة التراب الذي يهيله عليها، وهو يتذكر يديها تهش الذباب عن وجهه النائم؟
لا تتحدثوا عن أمهاتكم أمام الأيتام، وحين تمسحون على رؤوسهم احذروا أن تسقط أصابعكم في جماجمهم المثقوبة، فمنذ رحلت أمهاتهم امتلأت رؤوسهم بالفراغ.

أترك تعليقاً

التعليقات