محمد أبو راس

محمد أبو راس / لا ميديا -
في زمن تسعى فيه الشعوب إلى تعزيز سيادتها وترسيخ استقلال قرارها الوطني، تطل علينا مجدداً تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لتكشف عن وجه جديد من وجوه الهيمنة، وهذه المرة عبر قناة السويس. ترامب، الذي اعتاد أن يخلط بين إدارة الدولة والصفقات العقارية، تجاوز هذه المرة كل الأعراف الدبلوماسية والقانونية، بإعلانه الصريح أن على مصر -وكذا بنما- السماح بمرور السفن الأمريكية -مدنية أو عسكرية- دون دفع رسوم.
قد يرى البعض أن هذه التصريحات لا تستحق الالتفات، خصوصاً وأنها تأتي من رجل اشتهر بإثارة الجدل. ولكن ما أعلنه ترامب ليس مجرد تغريدة عبثية أو حماقة انتخابية؛ بل هو تعبير واضح عن محاولة جديدة لفرض الوصاية على قرار الدول المستقلة، وإحياء منطق “إمبراطورية الامتيازات”، الذي دفنته الشعوب منذ عقود، بعدما دفعت في سبيل كرامتها واستقلالها دماء وأرواح أبنائها.

بين القناة والسيادة
قناة السويس ليست مجرد مجرى مائي تمرّ فيه السفن، بل هي عنوان للسيادة المصرية، ورمز وطني لا يقل أهمية عن العَلَم والنشيد. تاريخ القناة هو تاريخ الصراع من أجل التحرر، من لحظة الفكرة التي ولدت في ذهن بونابرت، إلى سنوات الحفر التي أُريقت فيها دماء أكثر من 120 ألف عامل مصري، إلى تأميمها في العام 1956 الذي فجّر العدوان الثلاثي، وحتى إعادة تطويرها في مشروع القرن الذي أُنجز في عهد السيسي.
الرسالة التي بعث بها ترامب، حتى وإن أتت بشكل غير رسمي، هي محاولة صريحة لإعادة تعريف العلاقات الدولية، ليس على أساس القانون والاحترام المتبادل، بل على أساس “من يدفع أكثر، أو من يملك القوة الأكبر”، وكأننا ما نزال في عصر المدافع البخارية والبوارج الإمبريالية.

نقاط الاختناق ليست ثغرات للابتزاز
في عالم بات يعتمد بشكل متزايد على النقل البحري، تمثل الممرات الاستراتيجية، مثل قناتي السويس وبنما ومضيق هرمز وباب المندب، نقاطاً حيوية لضمان استمرار التجارة العالمية. هذه الممرات ليست مجرد “اختناقات” فيزيائية، بل هي أيضاً مواضع سيادية لدول قررت أن تكون شريكة لا تابعة في النظام العالمي.
مطالبة ترامب بمرور مجاني تعني بوضوح أن الإدارة الأمريكية ترى هذه النقاط السيادية كمجرد أدوات لخدمة مصالحها العسكرية والاقتصادية، دون مقابل. وتُغفل أن مصر -تماماً كبنما أو اليمن أو إيران- دولة ذات سيادة، تسن قوانينها وتحمي مصالحها ضمن أطر القانون الدولي، لا في مزادات السياسة الترامبية.

الرسالة المصرية: الهدوء الحازم
كان لافتاً أن الرد المصري جاء في البداية من خلال “الامتناع عن الرد”، ضمن موقف دبلوماسي محسوب يُدلل على عجز المواجهة أمام الهيمنة الأمريكية على القرار المصري منذ وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث اختارت السكوت في إشارة على الضعف عن الاعتراض حتى ولو بكلمة.
في المقابل، كانت النخبة المصرية أكثر وضوحاً، من سياسيين إلى إعلاميين، عبّر الكل بلغة واحدة: “قناة السويس خط أحمر”. لم يتردد أحد في وصف تصريحات ترامب بأنها “استعمارية بغطاء تجاري”، وأن السيادة ليست ورقة مساومة، بل “حق دفعنا ثمنه غالياً”. أما الإعلام، فقد التقط اللحظة بكل وعي، رافضاً كل محاولات تقزيم التاريخ، وموحّداً صفوفه حول موقف وطني جامع.

المشهد العربي والغائب الحاضر
صحيح أن العواصم العربية لم تصدر ردوداً رسمية على التصريحات؛ لكن صمتها لا يعني غياب الفهم. الجميع يدرك أن ما طُرح لا يتعلق بمصر وحدها، بل هو تهديد مباشر لفكرة السيادة في العالم العربي، ولأي دولة تعتمد في جزء من اقتصادها على ممرات مائية أو موارد استراتيجية.
والأدهى من ذلك أن تصريحات ترامب، وإن بدت معزولة، تتقاطع بوضوح مع مشاريع صهيونية قديمة متجددة، أبرزها “قناة بن غوريون”، التي تسعى “إسرائيل” منذ عقود لتنفيذها كبديل لقناة السويس. هذه القناة -إن نُفّذت- لن تقتصر على كونها مشروعاً اقتصادياً، بل ستكون بوابة لفرض النفوذ “الإسرائيلي” على البحر الأحمر، على حساب الدور المصري والأردني والسعودي، وهو ما يفرض مراجعة استراتيجية جماعية لكل الدول العربية.

ترامب.. بين التجارة والسياسة
إن كان من شيء ثابت في شخصية ترامب فهو اختزال السياسة في المال، وتحويل العلاقات الدولية إلى مزادات. من “صفقة القرن” التي حاول من خلالها بيع القضية الفلسطينية، إلى حديثه السابق عن “بيع غزّة”، وصولاً إلى تصريحاته الأخيرة، يبدو أن الرجل يرى العالم كخريطة لعقارات يمكن التفاوض عليها، لا دولاً ذات سيادة وتاريخ.
لكن قناة السويس ليست برجاً في مانهاتن، ولا صفقة عقارية على شاطئ ميامي، بل هي حكاية كفاح أمة. وترامب، مهما علا صوته أو تضخّم حضوره الإعلامي، لا يستطيع تغيير هذه الحقيقة.

أترك تعليقاً

التعليقات