حرب لاء
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
سيظل الكرب مقيما فينا جاثما علينا، ما بقينا نرتضي نهج الظالمين. هذا واقع مر كان ومايزال قائما في حياتنا، منذ كان السكوت جبنا، والاستكانة خوفا، والانسياق جهلا أو نفاقا للضالين والمضلين. أولئك الباغين المعتدين، الخارقين كل نواميس العالمين، المارقين على شريعة الله العظيم وسنة رسوله الكريم وهدي آل بيته المنتجبين المطهرين.
لن يتزحزح هذا الكرب وينقشع وسنظل نحياه حياة المعذبين، بلاءً من الله رب العالمين، ما بقينا لأنفسنا ظالمين. نعم فعل المسلمون وظلموا أنفسهم يوم اختلفوا وخالفوا رسول الله وخذلوا آله المهتدين بهديه والهادين لأمته من بعده. يوم رضوا بأن يتولى عليهم بغاة ضالون وطغاة مضلون، استبدوا بالسيف والحيف والعسف، وظلموا وتجبروا وكانوا مجرمين.
تجسد هذا جليا في فاجعة “كربلاء”. انتهك المجرمون حرمات عدة لا لبس فيها أو شبهة تذكر. حرمة القتال في شهر محرم الحرام، وحرمة قتل الأطفال، وحرمة مخالفة أمر الله بالمودة لآل بيت رسوله لا نصب البغضاء والعداء لهم وقتلهم بدءا بسبط الرسول، الحسين بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام- ومطاردتهم وسبي ذراريهم وإحراق خيامهم!
ما يحدث اليوم في واقعنا، تكرار لما حدث يوم “كربلاء” في الطَّف بصحراء نينوى في العراق. مواجهة بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الحرية والعبودية، بين الهداية والضلالة، بين العدل والظلم، بين العزة والذلة، وبين الرفعة والضعة. لم يخرج الحسين “لا أشِرا ولا بَطِرا ولا متكبِّرا ولا ظالما ولا مفسدا، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جدي رسول الله”.
قالها الحسين مدوية، في بيان دوافع خروجه مع أهله وأطفاله ونساء بيته، وأردف: “أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن منكر”. خرج منكرا الظلم والاستبداد ومفاسد شتى تتفق كتب السيرة في إقرار تفشيها حينها. وكان الرد حينها، تخييره بين اثنتين “السلة والذِّلَّة” بعد حصاره وأهله ومنع الزاد والماء عنهم، شاهد أجلى على ذلك الانحراف عن دين الله والإسفاف في الظلم والتجبر.
لقد كان ما حدث بحق كربا وبلاء مازالا حتى يومنا هذا فينا. مذبحة شنيعة وجريمة إبادة بشعة نكراء جسدت إمعان الطواغيت في تجبرهم وطغيانهم، في تألههم من دون الله جل جلاله، في عَمه غيهم وإثم عدوانهم، في نهج باطل لا شبهة فيه وجرم لا لبس فيه مع سبق إصرار وفجور افتخار بهذا الجرم، بحق دين الله ورسوله وآله، وضدا للحق والعدل.
لن أخوض في تفاصيل مذبحة كربلاء، فهي من الجرم الشنيع ما لا يحتمل التهوين، ومن العدوان المريع ما لا يقبل اللغط بين المتحدثين. بشاعتها في ذاتها شاهد يقر بنهج إجرام في واقعنا يتكرر، تتخذه فئات باغية ماضية في التجبر، وببغيها ما انفكت تباهي وتفخر، وتجد -مع الأسف- من يقر إجرامها ولا ينكر، بل ويبرر بغيها وعدوانها ويعذر!
تظل فاجعة كربلاء، مقياسا لمدى انحسار الوعي وافتقاد البصيرة وانحراف الأمة عن دين الله الحق ومنهجيته السليمة، بفعل ما تعرضت -وماتزال- من تحريف وتجريف، وتحوير وتغرير، بدأ مع تحويل الدين من رسالة ودعوة إلى سياسة ومملكة، أباحت المحرمات والفسق والسفور، وأشاعت المظلمات والتجبر والفجور، وأجرت الاستبداد بالمستضعفين حد الاستعباد.
مِن العار على أي إنسان سوي حر، أن يتبع من دون حتى أن يفكر، ضلال هذه الفئة الباغية الظالمة الآثمة عبر كل العُصر. عار بَيّن ظاهر لا مستتر، وشنار على كل سوي حر، يؤيد أهل الباطل والتجبر، ويقبل باطلهم ولا ينكر، أو ينبري لتبريره وافتراء العذر، أو حتى يصمت ويسكت بظن أنه بذلك آثر السلامة، وظفر بالنجاة من الشر!
الأمثلة هنا أكثر من أن تحصر، في كل زمان مر أو ينظر، وفي كل مكان مجدب أو مخضر. أمثلة عدة ونماذج حية على فداحة إجازة المنكر. يبرز دائماً تجرع البشر عواقب جسيمة للتخاذل عن دفع المنكر، التقاعس حيال جرائم الظالمين والمعتدين، أهل الباطل والبغي والتجبر. ولا فرق إن كان التساهل مع الشر، بداعي الخوف أو الجبن أو الحذر.
أبرز شواهد هذه العواقب الجسيمة لظلم البشر أنفسهم بالتقاعس عن رفض الباطل والتخاذل عن دفع المنكر؛ حال الأمة اليوم وكيف أنها تُهان وتُذل وتُفقر وتُقهر وتُنحر. ما يجري بحق اليمن وسوريا من عدوان أشر مستمر، وما يجري بحق الأبرياء في غزة من عدوان متكرر، ينفذهما الكيان الصهيوني وتحالف بغاة وطغاة العصر، قوى التجبر والشر.
لقد مثلت ثورة الحسين، شرارة وشعلة، شقت سواد الظلام والعتمة بشعاع الحق، وأن لا شرعية ولا استكانة لظالم أو فاسق، وأن الموت بعزة وكرامة، أشرف من الحياة بذلة واستكانة للظالمين وتوليهم والانقياد لتجبرهم وعسفهم وبغيهم. وأكدت حقيقة “ما الحياة مع الظالمين إلا برما”، وأقرت بين مبادئ الحرية والكرامة قول الحسين: “والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد”.
لهذا كانت فاجعة “كربلاء” وماتزال رمزا لفريضة الانحياز للحق ضد الباطل، وجهاد الظلم والشر والمنكر. مأساة أليمة لكنها واقعة خالدة للبطولة والبسالة، التضحية والشهادة، العزة والكرامة، والشجاعة في قول وفعل لاء. وحروب اليوم الدائرة بكل شراسة وبشاعة ضد كل مقاومة لقوى الطغيان والعدوان والاستبداد والاستعباد؛ تصدح بأن ثورة الحسين مستمرة على مبدئه: “هيهاتَ منا الذِّلَّة”.
وكما في كل عصر يوجد بغاة ظالمون وطغاة متجبرون، هناك في المقابل ثوار أباة، أحرار مصلحون، يصرخون في وجه الباطل بصرخة الحسين: “هيهاتَ منا الذِّلَّة”. والنصر حليفهم بإذن الله وعونه كما انتصر الحسين في الطَّف بكربلاء، بانتصار الدم على السيف، وتحوله إلى شعلة وشرارة لكل الأحرار ضد الظلم والظالمين والفساد والمفسدين، في كل زمان ومكان.

أترك تعليقاً

التعليقات