استحمار!
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

درج الخطاب السياسي والإعلام الحكومي في بلادنا والعالم العربي عموما، بوعي ودون وعي، على ترديد صفة تجميل قبح الاحتلال الأجنبي، بصفة «الاستعمار» التي خلعها عليه أحد أبناء الاحتلال بكتاب شهير عنوانه «الاستعمار»، وفي ذلك استحمار للبشر، واستغفال للعقول، يبعث على الاستنكار، ويجب أن يتوقف فورا ويزول.
استعمار في اللغة صفة تشديد لفعل تعمير، ووقائع التاريخ وأحداثه تثبت بالبرهان القاطع والدليل الناصع، أن ما من احتلال أجنبي غازٍ للأرض، ناهب للثروة، وغاصب للإرادة، وهاتك للكرامة، وسالب للسيادة، يبني ويشيد ويعمر لخدمة أصحاب الأرض المحتلة، وإن فعل ففي أضيق الحدود، وحيثما كانت مصلحته هو.
على العكس تماما، انطبع الاحتلال الأجنبي، في كل زمان ومكان، بالطباع نفسها. نهم الاستبداد، وتسلط الاستعباد، وانتهازية النهب، وشره السلب، وتجبر الغصب، وغطرسة الحلب، ومنهجية الإخضاع وسياسة الإتباع، عبر التجهيل والإفقار وإذلال وقمع الأحرار، والتنكيل والاعتساف، والتفريق والتمزيق، والإضعاف.
خذوا مثلا، الاحتلال البريطاني لميناء ومدينة عدن وجنوب اليمن، استمر 128 عاما، مثلت العصر الذهبي لإمبراطورية بريطانيا، ومكنها من التوسع شرقا وغربا، واكتسابها لقب «مالكة البحار والمحيطات»، و»الإمبراطورية التي لا تغيب عنها (أراضيها) الشمس»، دون أن تعمر جنوب اليمن، أو تشيد إلا ما كان لتثبيت احتلالها ودوام مصالحها فيه ومكاسبها منه.
غزا الاحتلال البريطاني عدن، وهي إحدى أهم الحواضر في المنطقة، وأهم الموانئ البحرية في العالم، وغزا جنوب اليمن وهو ولاية واحدة سياسيا، يصنف إداريا إلى مخلاف أو مخلافين من مخاليف اليمن، وغادره وهو ممزق إلى 24 سلطنة وإمارة ومشيخة، تختلف راياتها وموسيقى نشيدها، وتأتلف في الخضوع لوصاية الاحتلال البريطاني بمعاهدات استشارة وحماية.
ظل جنوب اليمن حتى انتزاع النضال اليمني الاستقلال من أنياب الأسد البريطاني، بائسا في معظمه، يعاني الفقر والعوز والحرمان، والجهل والمرض والهوان، باستثناء عدن، التي ظلت بحكم موقعها الاستراتيجي ومينائها الكوني، حاضرة تواكب ما تيسر من تطور أنماط وأدوات الحياة، ويشيد فيها الاحتلال ما أراده ووجد فيه حاجة ملحة له ومصلحة مؤكدة تنمي مكاسبه.
يتحدث بعض القاصرين عمرا أو وعيا، والتابعين ولاء وانتماء، عن بريطانيا بامتنان، ويسرد عن جهل أو طاعة، ما يعده إنجازات لحقبة الاحتلال، تحت بنت «أول...» محطة كهرباء، تحلية مياه، صرف صحي، منطقة حرة، تليغراف، طيران، سينما، إذاعة، تلفزيون... الخ ما شُيد في عدن بعد عقود من لندن، وينسى أو يتناسى لمن شيد ومن كان المنتفع منه؟
يغفل هؤلاء أو يتغافلون عمدا، في حديثه عن هذه الخدمات أنها أولاً شيدت في عدن حصرا، ومتأخرة جدا عن باقي مدن الموانئ العالمية. وثانيا شيدت بدافع تثبيت الاحتلال واستتبابه وتنمية مكاسبه. وثالثا ظل المنتفع منها قوات الاحتلال وسلطاته ورعاياه والجاليات الأجنبية، ورابعا خضع تشييدها لنظام الاستثمار لا الإعمار، وحسابات الربح والخسارة، من ريع وعائدات كل منها.
وخامسا -وهو الأهم- لم تكن لأجل أصحاب الأرض ورفاههم بأي حال، لأن أصحاب الأرض، ظلوا مجرد جالية وفي ذيل الجاليات والأقليات التي استقدمها وأوطنها الاحتلال لطمس هوية عدن وتذويب القومية فيها، وأكثر الجاليات بؤسا وفقرا ومرضا وتخلفا، يعرفون بفقر أحيائهم للخدمات الحضرية، وتدني تعليم أفرادها، وصفيح مساكنهم، في كريتر (عدن القديمة) والشيخ عثمان.
يجهل هؤلاء أو يتجاهلون عمدا، في حديثهم عن المآثر المحدودة كما ونوعا وانتفاعا، التي شيدها الاحتلال البريطاني، أن أغلبها شيدها تجار أجانب كما هي الحال مع عمارات المعلا التي شيدها التاجر الفرنسي البس، وشركة الطيران التي أنشأها التاجر هارون، وأن معظمها كانت تكرس الاحتلال كما هي حال أفلام دور السينما، ومضامين إذاعة عدن التي أنشئت متأخرة وبدافع التصدي لهدير المد التحرري عبر أثير إذاعة «صوت العرب» المصرية.
وينسون أو يتناسون أن أول مدرسة شيدها الاحتلال كانت «البادري» بعد قرابة 15 عاما من الاحتلال، وشيدها لأجل تعليم أبناء زعماء السلطنات والإمارات والمشيخات، اللغة الإنجليزية وعظمة الإمبراطورية والملكة للتعامل معهم وآبائهم، وأغلقها بمجرد تحقيق هذا الهدف، بعد عامين، قبل أن يبدأ عقب مرور عقود تشييد مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية، بعدد الأصابع، ولمن يحمل المخلقة (شهادة الميلاد البريطانية في عدن).
كما يتناسون أن أول مستشفى شيده الاحتلال البريطاني في عدن وجنوب اليمن، كان بعد 117 عاما على احتلاله واهتبال مكاسب موقعه وما توفر من خيراته (الزراعية والحرفية والمعدنية). وبالتزامن مع تدشين مرحلة اهتبال كبرى لمكاسب عظمى بتشييد شركته «بي بي» النفطية مصافي عدن، إثر تأميم شاه إيران مصافي الشركة هناك، ولم يجن أهالي عدن وجنوب اليمن من فائدة عدا مستشفى يحمل اسم الملكة!
ولا يسألون أنفسهم، متى صك الاحتلال أول عملة محلية في عدن ولجنوب اليمن، ولا ماذا شيد الاحتلال من مصانع، ولا ماذا استفادت عدن وأهاليها ومنتجاتهم من إعلانها منطقة حرة، ولا لماذا أوقف الاحتلال مشروع السكة الحديدة بين عدن وأبين ولحج بعد أعوام من تشييدها، ولماذا أعاد قطارها إلى الهند، ولا لماذا ظلت تقارير وزارة المستعمرات البريطانية السنوية تؤكد ارتفاع نسبة وفيات المواليد والأمهات وانتشار الأوبئة في عدن!
لا يتساءلون ما هي مؤسسات الدولة التي شيدها الاحتلال البريطاني في عدن وجنوب اليمن، ولماذا لم يشيد فيها ربع ما شيده في هونغ كونغ من مصانع ومناجم رغم استغلاله كل المنتجات الزراعية والحرفية والمعدنية القائمة قبل مجيئه، بما في ذلك روث طيور «السيما» في جزر ميون وعبدكوري وسقطرى بوصفه أفضل سماد للتبغ يدعى «جوانا»، ولماذا انهار اقتصاد عدن بمجرد إغلاق قناة السويس، وأجبرت الدولة الوليدة على الارتهان لمن يدعم موازنتها؟
الحال نفسها، مع الاحتلال الأجنبي الجديد، لعدن وجنوب اليمن، لم يعمر بقدر ما دمر، ولم يهب بقدر ما سلب، ولم ينهض بقدر ما انقض، ولم يجن عامة أصحاب الأرض منه، سوى الهوان والخوف والاستبداد والإذلال بسياط توفير الحد الأدنى من مقومات العيش بعد اختزاله أقصى طموحاتهم في مجرد البقاء أحياء، وأقصى أحلامهم توفر الكهرباء لست ساعات، والمياه أسبوعيا، والراتب، والوقود، وشفط المجاري ورفع القمامة.
أما الأمان المنشود، فغدا في حكم العزيز المفقود، والجميع رهن لألطاف الأقدار به، ورجاء الله تجنيبهم الموت برصاص وقذائف الاشتباكات بين مليشيا الاحتلال والتصفيات والاغتيالات، والاعتداءات بالهراوات والتعذيب، والنهب والسلب للممتلكات، والتشريد والتهجير المناطقي، والإقصاء التعسفي من الوظيفة، والاختطاف والإخفاء القسري والاعتقال القهري، والأمراض والأوبئة الفتاكة، وغيرها من أهوال الاحتلال.
تلك بعض حقائق قرن ونصف من الاستغلال الانتهازي لسلطات الاحتلال البريطاني، وهناك الكثير مما يؤكد أن ما من احتلال أجنبي غازٍ للأرض، وناهب للثروة، وغاصب للإرادة، وهاتك للكرامة، وسالب للسيادة، يبني ويشيد ويعمر لخدمة أصحاب الأرض المحتلة، وإن فعل ففي أضيق الحدود، وحيثما كانت مصلحته هو. أو كما قال نائب الملكة في بومباي السير روبرت جرانت، ردا على طلبات قائد احتلال عدن الكابتن ستافورد هينز: «لم نأت لنعمر وننفق، بل لنثري مصالح جلالة الملكة».

أترك تعليقاً

التعليقات