كلنا يمنيون
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

كل نعرة مذهبيةٍ تساوي عندي نَهقة، وكل نَزعةٍ مناطقيةٍ توازي نعقة، وكل نخطة عرقيةٍ تساوي عوية، وكل نبرةٍ 
عنصريةٍ تستوي ونبحة... هي كلها عندي خناجر مسمومة لا تكتفي بطعنة. إنها نصل مفرمة للمجتمع، لا تستحي فيه مذبحة
أو مهلكة! ولا سبيل للنجاة منها إلا بتركها مدفونة، فاتركوها ميتة، لعن الله من نبش قبرها أو بعثها أو نفخ فيها.
ليت قومي يترفعون عن حضيض النعرات المناطقية والمذهبية والطائفية والسلالية... الخ! عصبيات مقيتة، هدت عدامتها البلاد وأعيت أدرانها العباد. ليت أنهم لا يمنحونها روح الزفير والشهيق، ويكفون عنها هفوات التصفيق لها، فهي والله قبيحة قبح النهيق والنعيق، ودس خبيث مجرم صفيق، يحكم فينا المحق والضيق، ولا يزيدنا إلا غرقا ونفخا في نار الحريق!!
يلزمنا أن نفيق ونتنبه جميعنا بلا استثناء لهذا الدس. علينا أن نصغي لصوت العقل لا العواطف وعواصف انفعالاتها، وأخص هنا المتعلمين والمثقفين والمعلمين والسياسيين والصحافيين والكتاب والناشطين والمتكلمين من خطباء ووعاظ... الخ، من يتعين عليهم لزاماً قبل غيرهم أن ينبذوا ضجيج النعرات المذهبية وعجيج النزعات المناطقية وهجيج النبرات العنصرية، فإنها والله لا تليق بهم أبدا!!
المتعلمون يفترض أنهم يعلمون حقيقة الخطر، وأن يتصدوا لهذا الدس المناطقي والمذهبي والعرقي والطائفي... أن ينهروا أبواقه ويزجروا أقلامه، وينذروا المجتمع، يحذروه الآن قبل الفوات، قبل أن نقع في شراك جفوة ومتاهة فرقة، ونسقط في أتون فتنة، وننزلق إلى هاوية مهلكة، ونغرق في دوامة نكبة، تصبح فيها الأرواح في حكم السلعة بيعا وشراء، وتصير الدماء في حكم العملة: دينا وقضاء، لا نهاية له إلا بفناء الكل!!
يبدأ الأمر بفضاضة التشاحن وفجاجة التلاسن ومضامة التغابن وريبة التخاين، ثم تكون جفوة التعامل وفجوة التواصل، ويتبدد التسامح والتناصح، ويستبد بنا التقادح والتجارح، وتنهشنا الأحقاد وتشقينا الأنكاد، فتهجرنا العزة وتهيننا الفرقة، وتغادرنا الرحمة وتسكننا القسوة، حين تحل نقمة التقاتل محل نعمة التكامل، ليستحلنا العذاب ويحاصرنا الخراب، ونعتاش الانتحاب ونحيا السراب!
ذلك هو مساق الدس العنصري، عرقياً كان أو مناطقياً أو مذهبياً وأيديولوجياً... التناحر العبثي حالا ومآلا، دافعا ونوالا، في كل زمان وزمان. فبلغوا عني كل شَعب (بفتح الشين) يُراد له أن يتحول إلى شُعب (بضم الشين) أن أمانه بذلك يكون ولى وذهب، وهلاكه دنا واقترب، بنار يكون لها الحطب، تأتي على كل هذا الشعب، لا تذر منها شُعبا أو نخبا!!.
لوثة التمييز تطوف كالوباء سحرا، تعصف بنسيج البلد كالنار هشما. سيقال: هذا في اليمن الجريح وأكثر منه بعدما يفلح الخبثاء في تفخيخه مذهبيا وينجحون في تجزيئه مناطقيا، وتمزيق نسيجه المجتمعي شذراً مذراً، حين يفني كل جزء منه جهده ووقته ومقدراته في صراع النفوذ والهيمنة مع الأجزاء الأخرى، خوفا وتخويفا، فلا تقوم لهذا البلد قائمة!!
لن يحدث ذلك، ويجب ألاّ يحدث، ونستطيع أن نمنع حدوثه. لدينا قواسم مشتركة كثيرة، أصيلة لا دخيلة، أزلية لا حديثة، كامنة لا عارضة، وثابتة لا متغيرة ولا يجب أن تتغير. فوحدتنا وحدة وجود تسبق وحدة الجدود، وتتجاوز مسميات نظم الحكم والحدود، في مكان عُرف عبر الأزمان بالاسم نفسه: اليمن ويمان، وظلت نسبة البشر والشجر والطير والحجر والبحر... وكل ما فيه يمني ويمان.
كل المسميات القبلية والتسميات المناطقية والمذهبية والحزبية، لا تلغي أن القبائل والمناطق يمنية وأن معتقدي المذاهب ومنتسبي الأحزاب يمنيون. وأكاد أجزم أن أبرز ما يجمعنا أننا نريد يُمنه من جديد لا تأكيد منيته بالنار والحديد. نريد يمانه المفقود منذ زمن بعيد، لا يبابه المديد من قوى التبديد. نريده يمنا لجميعنا خيرا مشاعا للكل، لا يمينا لهم مملوكا ملك العبيد.
إذن ينبغي أن يكون السؤال الأهم لأنفسنا: ألم يئن الأوان ليتغير اليمن ويعود اسماً على مسمى: يمنا سعيدا لا تعيسا، ويمانا طيبا، مستقراً لا مأزوما مبليا بالكدر ومغشيا بالكمد ومجبولا على الكبد، يمنا مستقلا ميمونا لأولادنا وأحفادنا بالمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات والفرص والمشاركة، لا بلدا مقسما بين نافذين ومؤمما لثلة فاسدين؟!!
نعم ينبغي، شئنا أم أبينا، أن يكون هذا هو السؤال الأهم لأنفسنا: ألم يئن الآوان لنتعصب جميعنا فقط لليمن، كل اليمن، ولمصلحة اليمنيين، كل اليمنيين، بعيدا عن عصبية القرية والمنطقة وجهوية القبيلة والعشيرة وتبعية الطائفة والجماعة وعصبوية المذهب والحزب، بعيدا تماما عن لوثة عصبية الجهل وإمعية العقل؟!!
الجواب: بلى، والله حان الوقت لذلك، ولا خيار أمامنا جميعنا عداه للنجاة. فمشكلة اليمن لم تكن يوما مذهبا ولا حزبا ولا شكل دولة أو هوية، بل كانت ولا تزال مشكلة نظام وإدارة، اعتورهما الاختلال وأعطبهما الاعتلال، والحل يكمن في الاختلاف معهما لا مع الدولة ولا مع المجتمع ونسيجه، وفي معالجتهما أو تغييرهما لا في تمزيق اليمن وإحلال الفوضى محلهما.

عرق واحد
جرب من يضمرون الشر لليمن ويسعون له في هوان التجزئة، أن يسمموه بفتن المذهبية الدينية، وفشلوا لأن الدين لم يكن داعي عصبية اليمنيين عبر التاريخ، وظل اليمن ساحة أديان قبل نزول الرسالات السماوية، وكان لكل قبيلة كوكب تتخذه إلها، كما بقي اليمن بعد نزول الرسالات واحة مذاهب عدة في القراءات والفقه، ظلت متجاورة في تناغم مثلما ظل أتباعها متعايشين في سلام.
كان داعي عصبية اليمنيين وما يزال هو الدم الواحد لجميع اليمنيين، والانتماء لهوية يمنية واحدة، هي التي توحدهم وإن فرقتهم الصروف ومزقتهم النوائب، حينما يكون اليمن كل اليمن هو المستهدف بأي اعتداء أو غزو، ولا أدل في التاريخ القديم من حشد الملك سيف بن ذي يزن اليمنيين وانطلاقه من شبوة لتحرير صنعاء من قبضة الاحتلال الفارسي، ثم اتحاد اليمنيين ضد الاحتلال التركي ثم البريطاني.
لا جدوى من العبث ومحاولة الوقيعة بين اليمنيين، بزعم أنهم يتحدرون من عرقيات أو يتألفون من أقليات، فكل قحطاني وعدناني عربي يمني، وما عداهما ليس عربيا أصيلا وإن غدا كذلك. جد قبائل قحطان وعدنان واحد هود عليه السلام، لذا فعرقهم واحد ودماؤهم واحدة، تمازجت وانصهرت هنا في اليمن منذ تزوج إسماعيل عليه السلام رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي.
كذلك عدنان نفسه تزوج من ماعنة بنت حوشب الجرهمي، فكان أخوال أبناء إسماعيل وأجداد أحفاده من قبيلة جرهم اليمنية الحميرية، واستمرت وشائج القربى متجددة وأواصر الرحم وثيقة، فتزوج هاشم بن عبد مناف، من سلمى بنت عمرو بن زيد النجار، زعيم قبيلة الخزرج الأزدية الكهلانية القحطانية، لتكون أم عبدالمطلب يمنية وأخواله يمنيين، وتكون جدة رسول الله الخاتم محمد يمنية وأخواله يمنيين.
وإذن، مَن قحطان ومَن عدنان؟ كلاهما صنوان من نسل هود بن سام بن نوح عليهما السلام، فرعان من أصل واحد عريق أزلي الإيطان في هذا المكان من جزيرة العرب، هنا في يمان الرحمن ونفسه الحنان، من يوم الخلق وحتى يوم يعرض البشر وأعمالهم على الديان.
يغفل كثيرون حال إنسان اليمن منذ غابر الزمان وأنه دائب الحركة والتنقل في تشييد الحضارات وبناء العمران، حتى غزلت جذوره أعماق الأرض، ونسجت عروقه سطحها بأبهى حُللٍ وبردٍ ومُلأٍ وقُصب القطن والكتان، وغدت قبائله كما الشرايين، تجري فيها دماؤه وقد امتزجت كما مياه الوديان، دائمة الدفق والجريان، ومُحال فرزها أو فصل جزيئاتها بمكان.
لا يستطيع أي يمني أن يزعم انتماءه كابرا عن كابر ولعشرةٍ فقط من الأجداد والجدات إلى قرية أو مدينة بعينها، لأنه سيجد أن مساقط رؤوس هؤلاء الأجداد العشرة فقط والجدات العشر فقط تشكل خارطة اليمن الكبير من أقصاه إلى أدناه، وعلى نحو يشبه تماما خارطة مساقط أودية اليمن وتعدد تداخلاتها وتشعب تفرعاتها وتمدد أطوالها واختراقها الجبال والهضاب والفيافي من دون حد أو قيد.

كلنا جنوبيون
هذا ما لا يدركه كثير من شباب اليمن مع الأسف، وبصورة أكبر في جنوب اليمن بفعل تضليل الساسة وطامحي الرياسة، لا يعرفون:
أن كل عربي جنوبي يمني بالضرورة وكل جنوبي يمني عربي بالضرورة، وكل جنوبي يمني وكل يمني جنوبي، لأن اليمن سكانا مهد يعرب جد العرب، ووجودا يقع جنوب شبه جزيرة العرب وجنوب العالم العربي وجنوب منطقة الشرق الأوسط وجنوب قارة آسيا.
لذا دعوكم من نبرة "جنوبيين" و"شماليين"، فهي جهات مكان لا هوية كيان ولا جنس إنسان، ولا تنفي أن المكان عُرف عبر الأزمان أنه يمان، ولا تلغي أن إنسان هذا المكان ينحدر من يشجب بن يعرب بن قحطان، وأن جد قحطان وعدنان واحد وكلاهما سليل نبي عاد، هود عليه السلام.
قلت هذا وفي معناه غير مرة، ونشرته عام ألفين وخمسة، ثم في ألفين وسبعة، وأعدته في ألفين وعشرة، ثم في ألفين وثلاثة عشر، وفي ألفين وخمسة عشر، والآن في ألفين وتسعة عشر، وسأظل ما حييت، أعيده في وجه كل موجة وجائحة تريد إيقاظ فتنة تذبحنا جميعنا من الوريد إلى الوريد وعلى غير قبلة!

أترك تعليقاً

التعليقات