درس الاحتلال
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا -

تحل ذكرى تحرير جنوب اليمن وانتزاع مسيرة النضال اليمني الاستقلال الوطني وجلاء الاحتلال البريطاني؛ في ظل ظروف تجعل الأهم من الاستقلال، بنظر مراقبين، دروس الاحتلال نفسه: كيف وقع؟ وكيف دام طوال 128 عاماً؟ وكيف تسنى بعد هذا الدوام، قهر قوات الاحتلال ودحرها؟!
«التمزق يسود هذا الجزء من العالم العربي، فكل ملك أو سلطان أو شيخ يقف وحيداً على مساحته منعزلاً عن الغير، أما الاتحاد والتعاون فكان مما ذهب مع الريح». قال يعقوب، بعبارة واضحة وصريحة، في توصيف حال المنطقة العربية وجنوب اليمن قبل 181 عاماً مضت.
يعقوب ليس مدرس محفوظات وطنية بمدرسة يمنية، بل ضابط بريطاني شهير، يدعى هارولد جاكوب، عمل نحو 24 عاماً في عدن وفي ما عرف بـ«محمياتها الشرقية والغربية»، وشغل منصب المساعد الأول للمندوب السامي البريطاني، ولعب دوراً بارزاً في الحرب العالمية الأولى، خصوصاً في شؤون الجزيرة العربية أدركت إمبراطورية بريطانيا فاعلية قانون «الاتحاد قوة» فاعتمدته في نشأتها باتحاد إنجلترا وويلز واسكتلندا (1707م) ثم إيرلندا الشمالية (1801م)، وفطنت إلى أن بلوغ أطماعها التوسعية وفرض هيمنتها على منابع الثروات الطبيعية وطرق الملاحة الدولية، لن يتأتى إلا بإعمال نقيضه «فرق تسد».
استطاعت إمبراطورية بريطانيا بسط هيمنتها على ربع كوكب الأرض ونشر نفوذها التجاري فالعسكري في آسيا وأفريقيا، انطلاقاً من خاصرته اليمن وتحديداً عدن، عبر اللعب بالتناقضات واستغلال طموحات القوى المحلية في الحكم والرياسة، ووجدت ضالتها في جنوب اليمن.
كان اليمن لايزال يفتقد الدولة المركزية إثر دحر الاحتلال العثماني الثاني، وصراع الثائرين ضده على الحكم، ما شجع زعامات قبلية في جنوب اليمن إلى الانشقاق بالحكم في نطاقاتها الجغرافية تحت مسمى سلطنات ومشيخات وإمارات، وجدت بريطانيا في حاجاتها للشرعية، فرصة للتغلغل.
مع ذلك ظلت خيانة قوى الداخل عونا للخارج، واستجداؤها شرعيتها من الخارج مقابل السيادة، فنجحت سلطات الاحتلال البريطاني في إخماد المقاومة عبر تعميق التمزق وتوسيع التفرق، واستطاعت توقيع اتفاقيات مع الكيانات الجهوية الطامحة في الحكم، تضمن اعترافاً متبادلاً بالشرعية وحماية مشتركة.
تطلب دوام الاحتلال البريطاني، مزيداً من الإعلال لقوة اليمن، فعمدت بريطانيا إلى الإيغال في سياسة «فرق تسد»، وتجزيء المجزأ، وبعدما كانت كيانات جنوب اليمن تسعاً، صار عددها 23 كياناً حاولت فصمها عن اليمن إلى الأبد، بتوحيدها في إطار دولة شكلية خاضعة لمعاهدة وصاية بريطانية كاملة.
ألزمت نصوص المعاهدة سلطنات وإمارات جنوب اليمن بالولاء المطلق لملكة بريطانيا ومندوبها السامي، وإتاحة أراضيها ومياهها وأجوائها للقوات البريطانية، وامتناعها عن أية علاقات خارجية من دون الرجوع لبريطانيا أو إضافة عضو لاتحادها من دون مصادقة الملكة، وغيرها من البنود المهينة.
لكن اتحاد اليمنيين في ثورتي 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963، نجح في التحرر من أسباب الحرمان والهوان، وفي مقدمها التشطير، وأفشل مؤامرة الاحتلال البريطاني وأنهى وصايته وهيمنته على جنوب اليمن، بإجهاض مشروعه التآمري الذي عنونه باسم «اتحاد الجنوب العربي».
دروس عدة، تستدعيها ذكرى انتزاع الاستقلال الوطني من الاحتلال الأجنبي، لعل أهمها، تأكيد حقيقة وهن الانقسام وقوة الالتحام، لأي مجتمع وشعب، في كل زمان ومكان، وأن قوة اليمن ظلت عبر التاريخ في اتحاد أيدي أبنائه وكلمتهم، وضعفه ظل في تفرق أيديهم وكلمتهم، وأن التفريط بالجزء يتبعه الكل.
لكنها دروس لم تستوعب، كما ينبغي، بدليل تشابه ظروف الاحتلال البريطاني لمدينة عدن وجنوب اليمن، وظروف العدوان السعودي على اليمن وقواته الغازية ومرتزقته واحتلالها عدن، من ناحية الأطماع، وعملاء الداخل، واستجداء شرعية الحكم من الخارج على حساب التفريط بالسيادة، والصمت الدولي، حياله.
مع ذلك، يظل الثابت، عبر الأزمان، كما هو اليوم، أن اليمن لم يخضع لاحتلال أجنبي إلا حين تمزقت قواه وتفرق شعبه وخان بعض نخبه، مثلما تقر بأن اليمن لم يبلغ أوج حضارته ويردع الطامعين فيه وفي موقعه، إلا باتحاد قواه وتوحد إرادة شعبه ووحدة إدارتهم، على كلمة سواء، عنوانها السيادة والعدالة.

أترك تعليقاً

التعليقات