حفيد الاحتلال
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم / لا ميديا - 

نجح وزير خارجية بريطانيا في إثارة الاهتمام وجذب الأضواء إليه ليغدو هو محور الحدث أكثر من كونه طرفاً فيه أو معلقاً عليه.. والحق أن من يتتبع مسيرته السياسية الكبيرة بمناصبها قياساً بعمره، ويأخذ بعين الاعتبار سيرته الأسرية وبيئة نشأته؛ لا يجد غرابة في الأمر، فهو نهج ذكي ينهجه، ويترجم حرفياً سلوك بريطانيا السياسي الانتهازي وتوجهها الإمبريالي القديم الجديد.
لن أتوقف كثيراً عند المضمون مثير الاستفزاز الواسع لتصريح وزير خارجية بريطانيا جريمي هانت، المسجل فيديو كما يحرص دائماً منذ بداية حياته السياسية، وبخلاف أسلافه ونظرائه من وزراء خارجية دول العالم، في استخدام مجال استثماره الخاص (وسائل النشر) في التسويق لنفسه، وتعمد إثارة أوسع جدل ممكن بشأنه، يجعله يتصدر المشهد ووسائل الإعلام ووسائط التواصل.
كثيرة هي وقائع الجدل التي أثارها جيرمي هانت خلال تقلده وزارات المعاقين ثم الثقافة والأولمبياد والإعلام والرياضة، فالصحة والرعاية الاجتماعية، أكان بتصريحاته "المتطرفة" أو "وعوده المضللة" أو "مزاعمه المخادعة" لتسويغ "موازنات مضخمة" أو عبر وقائع فساد مالي عدة، أبرزها "تهرب من دفع الضرائب" و"شراء 7 شقق فاخرة في الساحل الجنوبي لإنجلترا بنصف قيمتها"، حسب الصحافة البريطانية.
ظلت زوبعات هانت، تقابل بتصاعد حظوته السياسية بتوتيرة متسارعة، رغم تسبب تصريحاته وممارسته المثيرة للجدل، في رفع دعاوى قضائية ضده وجلسات استجواب له في البرلمان وتحريك عرائض مطالبة بإقالته غير مرة، حداً جعل الصحف البريطانية تسميه تارة "الوزير المضلل" وتارة "الوزير المكروه" حسب صحيفة "مترو"، و"ليبرالي متروبوليتاني" وفق "فاينانشيال تايمز".
زوبعة تصريح هانت الأخيرة بشأن اليمن، لا أجد مضمونها هو الغريب، رغم كونها نظرياً تخالف الأعراف الدبلوماسية، وتقر بأن مملكته المتحدة طرف أساس إن لم تكن قائداً فعلياً للصراع الدائر في اليمن، لا مجرد داعم لوجستي لتحالف الحرب السعودي الإماراتي، ومصدر أسلحة له بقيمة 4.7 مليار جنيه إسترليني "يعتمد عليها الاقتصاد البريطاني ومصانعه" كما سبق لهانت القول.
ليس الغريب في نظري مضمون تصريح هانت ولغته التي تظهره منافساً لناطق تحالف العدوان العميد المالكي، بل الهيئة التي اختار هانت الظهور بها، والمكان الذي اختاره في مدينة عدن دون غيره لتصوير تصريحه. هذا ما يبدو لي لافتاً جداً، لا بوصفه مارقاً على البروتوكول الدبلوماسي فحسب، بل لكونه متعمداً وليس عارضاً، ما يجعله هادفاً إيصال دلالات محددة.
هذه الدلالات هي الأهم في نظري، ومع أن تعمده تصوير تصريح له مرتدياً سترة واقية من الرصاص، يؤكد واقع انفلات الأمن في عدن التي توصف بأنها "محررة"، ويؤكد أن ما من سلطة لما يسمى "الشرعية"، وإلا لكان أدلى بتصريحه في حضرتها.. رغم هذا، إلا أن تعمد هانت تصوير تصريحه بهيئة تحاكي هيئة المحارب، وإن اكتفت منها بارتداء سترة مصفحة، يصرح بصفة تتجاوز صفة سياسي مدني (وزير خارجية).
يأتي بين أهم دلالات تعمد وزير خارجية بريطانيا جيرمي هانت، تصوير تصريحه بهذه الهيئة، ومنفردا لا في لقاء مع نظير له في السلطة "الشرعية" أو أي ممثل لها، وفي مكان عام لا في مقر قنصلية بريطانيا، مجاهرته بإعلان انتفاء السيادة اليمنية عن مدينة عدن، على نحو فج انطبعت به شخصيته، وأكدته نبرة تصريحه المتعالية والمتباهية أيضاً.
لكن الأهم بنظري، هو تعمد هانت اختيار ما كان يسمى إبان الاحتلال البريطاني لعدن "رصيف أمير ويلز"، وما كان يسمى "نادي ضباط البحرية الملكية" في مدينة التواهي، حاضنة مقر المندوب والحاكم البريطاني. الدلالة هنا صارخة في تقديم نفسه حاكماً بريطانياً عاماً للمدينة، وتقديم بريطانيا قائداً فعلياً للتحالف السعودي الإماراتي، ومالك القرار الأول في شأن الحرب، وصاحب نصيب الأسد من غنائهما.
صحيح أن مسؤولية وزير خارجية بريطانيا تشمل أجهزة الاستخبارات والمحيطات، لكن الأمر يكتسب خصوصية مع جريمي هانت، دعمت اختياره دون غيره في يونيو الماضي لهذا المنصب، وفي هذه المرحلة، على نحو يجعله الأنسب للدور البريطاني في الحرب وأهدافه، التي تؤكد المعطيات يوماً تلو آخر، أنها تذهب باتجاه تجديد أمجاد امبراطورية بريطانيا من درة تاجها، عدن.
لم يكن عفوياً مطلقاً، اختيار جريمي هانت ما سمي رصيف أمير ويلز (عقب زيارة الملك إدوارد، والد الملك جورج الخامس إلى عدن نهاية نوفمبر 1911م، عندما كان أميراً لويلز)، لتصوير تصريحه ذي النبرة التهديدية والمالكة، فهو سليل ملكة البحار فيكتوريا، حسب موقع أنساب الأسر الملكية والنبلاء (thepeerage)، ويتحدر من البارون توماس هانت.
ليس هذا فحسب، فجيرمي هانت هو الابن الأكبر للأدميرال السير نيكولاس جون سترينشام هانت، قائد القوات البحرية الملكية، ورئيس نادي البحرية الملكية، وهو أيضاً حفيد العميد جون (جاك) مونتجومري هانت، القائد في الكتيبة الخامسة لفوج البنجاب الثاني، الجيش الهندي.. المنفذ لاحتلال عدن عام 1839، ثم جنوب اليمن كاملاً بمعاهدات الحماية والاستشارة.
لا غرابة، إذن، أن يظهر وزير خارجية بريطانيا جيرمي هانت، بتلك التصريحات وتلك الهيئة والنبرة، فهو حفيد "الاحتلال البريطاني"، وحفيد ملكة إمبراطورية بريطانيا العظمى "التي لا تغيب عن أراضيها الشمس".. شمس الامبراطورية التي أشرقت من احتلال عدن وجنوب اليمن، وأفلت بدحر القاعدتين البريطانيتين الجوية والبحرية من عدن وجنوب اليمن، وتروم لندن إعادتهما.
في هذا اشتهر لجيرمي هانت من بين تصريحاته المثيرة، قوله "بريطانيا ستزدهر.. ستزدهر"، في سياق تعصبه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وضلوعه الجلي في مساعي استعادة أمجادها الإمبراطورية عبر استعادة السيطرة على البحار ومضايق الملاحة الدولية، وإن بواجهة ودشداشة خليجية، ترتديها دول صنعتها بريطانيا، ولا تزال تخضع لمعاهدات حمايتها ووصياتها.

أترك تعليقاً

التعليقات